الكاتب: عطا الله شاهين
يقولُ ذاك الرّسام لذاته : يبدو أنَّ صديقتي ناتاشا، حينما تعرَّفتُ عليها ومن أول يومٍ عوّدتني أنْ تحملني على منامٍ كما عوّدتني أنْ تؤكّلني منْ منامٍ، وتشرّبني مِنْ منامٍ، وهذا دليلٌ على مناماتِي السّابقة، فأنا أغفو على حُلمٍ، وأستيقظ على منام.. فكثيراً ما حلمتُ بشادنٍ تشبه السّحابة البُرتقالية، وكثيراً ما رغبت لو أنْ أجتمعَ بها في الطُّرقات، وفي الأودية والسُّهول.. فيبدو أنَّني كنت أُبالغُ بأحلامِي، وها قدْ مضى عدة سنوات ولمْ ألتق بها، وقدْ رسمَتها عشرات اللوحات وعلقتها على حيطان غرفتي.
فذاك الرسام فرَّ من ضجرٍ ذات ربيعٍ باردٍ، إلى غابة من غاباتِ سيبيرية الواسعة، بعد أنْ ضجرَ جوّ المدينة، فهو لا يدري إنْ كانتْ في مدينتِه أجَمَة، كُلُّ ما يعلمُه أنّه يحترفُ فقط المنامات ورسمَ اللوحات المجنونة. وفي تلك الأجَمَةِ الباردة، قعدَ ليرسمَ لوحةً أتتْه فكرتها للتّو، مدَّ كراسات ذاكرته ورسمَ وهو يحدّق في السَّماء وتمتمَ، هناك أشياء نتوقُ إليها، نترقّبها أنْ تجيء، ولكنَّها لا تجيء، وتلك التي جذبَته نحو فتنتِها، وقيّدته ذهناً وروحاً لا تجيء .. فجأةً سمعَ قهقهةً عالية، فكفَّ عنْ الرّسمِ، ونظر في كُلِّ النَّواحي، فشاهدَ وحشاً جميلاً على هيئةِ فتاةٍ تُحاكي رسماً يمرُّ مِنْ قنواتِ الرُّوح، ترتسمُ على سحنتِها الصبا، شعرُها أشقر طويل وأخّاذ. يا للرّوعة لماذا يستهويه الشّعر الأشقر؟ مُقلتاها مساءات طُيور الكركي، خدّاها زهرُ شجرة البيتولا، وشفتاها حقلُ توت بريّ. كانتْ تتمدّدُ بأناقةٍ تَحْتَ شجرةِ تنّوبٍ، ولا يُغطّي جسدُها إلا معطفاً باهتا يكادُ لا يُغطّي كل جسدها الساحر.
إنّها هي.. شادنته التَّائهة، صرخَ مِنَ السرور وغاصَ في غمْرِ جذلٍ مخلوطٍ بكثيرٍ مِنَ الحلاوة، تبصّرَ سِحرَ جسدها، ونســي أين هو ونسي موضوعَ اللوحة أيضاً.
أومأتْ له برأسها أنْ يدنو مِنها وهي ترمقُه برمقٍ ينم عنْ سغبٍ مِنْ نوعٍ آخـر، لكنَّه لمْ يتجاسر على الدّنو، كيف يدنو ولا يدري هلْ هي فتاةٌ، أمْ شادن، أمْ عفريتة؟
هيا تقدّم وافركْ كتفيّ، قالتْ له بنبرةٍ حادة، ثُمّ تمددتْ على بطنِها، فاختفى الجسَدُ تَحْتَ خُصلاتِ شعرِها الأشقر الطويل.
ارتجَّ فؤاده ارتجاجَ أوتار الكمنجة وهو يرنو نحو الرّوعةِ والفتنة، ولا يدري كيفَ تجاسرَ وجلسَ قبالة الجسدِ الجذّاب، أبعدَ برقّةٍ الشَّعر الذهبي، فظهرتْ النّعومة والطراوة. غازلتْ يده الجسَدَ البارد، وطابَ لها المقام فوق الكتفيْن، ثُمَّ مُنتصف الظَّهر، بينما نفسه تصدحُ كطائرٍ أفلتَ لتوه مِنْ قفصِه وتتساءلُ: إذا كانتْ شادن، أو امرأة، أو عفريتة فأينَ الهيكل العظمي؟
القمرُ بدأ يشـرفُ على الظّهور، والطّيور تودّعُ بعضـها البعض باللثماتِ على أملِ اللقاءِ عند الفجر، والأجمَةُ تلتزمُ الهدوءَ والصمت، وهي وهو يطلقان تنهيدات، يحترفان المُتعة ويكادان يغادران إلى دنيا النُّعاس.
وما ألذّها حين اعتدلتْ قاعدة، ولمستْ وجهه المتعب وهمستْ: سأطعمكَ شيئا لمْ تذقه من قبل، جرتْ فيه غُدرِ الرّغبة وانفتحت شهيته لكلِّ الجسد، وبعد صمتٍ قليل سألَها: منْ تكونين ومِنْ أيّ دُنيا أتيتِ؟
أنا الدّهشة والقهقهة التي تحلّقُ بلا تعبٍ، وقد جئتُ مِنْ دنيا العِشق والغموض.
وقبل أنْ يبدأَ بتذوّقِ الحُبِّ منها، أطلقتْ قهقهةً عالية، وركضتْ صوب الأشجارِ العالية، وراحتْ تقسو عليه ولا يقسـو إلا في غرامِها، وكانَ رداؤها يرتجفُ ارتجافات الصَّقيع السّهوبي، بينما العتمة تستعدُ لأن تعلن عنْ نفسها.
انجذبَ إليها انجذاباً، غرّد مناماً منثوراً وراءها، فليس له سوى الأحـلام ؟ رسـمَ شوقَه على التراب، حضنَ خطـواته، كادَ يمسكُ بيدِها وشـعرِها الهفهاف يداعبُ وجنتيه، لكنَّها تمكّنتْ وبحركةٍ سريعة أنْ تتملّصَ منه. العدو في الأجمَةِ وفي جوٍّ باردٍ وخلف فتاةٍ لها طـعم التّوت البري، شيء رائع وغير مُتعِب.
لعبتْ لعبةَ المُراوغة، تحكّمتْ فيه وهي تظهرُ له جمَالها حيناً، وحيناً تُمطرُه كركرة وتشجّعه على الجري خلفها، فجأة ضلّتْ وتاه معها، اختفتْ وكأنّ الأجمةَ قدْ أخذتها، فعادَ الكرْبُ المنسي وارتسمَ على حوافِ العمر.
بعد برهة ظهرتْ قبالته وكأنّها انسلّتْ من السّماءِ وقطنتْ الأجمة في سهوة منه، غـزّتْ أشياءً بديعة في بؤبؤ مُقلتيه، فاستردّدتْ لأن يحتويها برسمِه ويقتنيها اقتناءً أبدياً، ولكنّ كرْبَ الرُّوح هرمتْ، نســي في غمرةِ لهفته وهو يعدو وراءها أنَّه في أعماقِ الأجمَةِ وباتْ تائهاً فيها. كانَ يجري ويزفها اشـتياقه، وجعه، توهانه، لكنّها خانته وأرجعته إلى نقطةِ البداية، حيثُ المنام والصراع بين الجسد المُنهك والفؤاد العاشق.
أين أنتِ؟ هل مازلتِ في الأجمَةِ أم انقلبتِ إلى آلٍ خادعٍ؟
لمْ يضجر ولمْ يتعب من التفتيش عنها، فجأةً سمعَ ارتدادَ قهقهاتها ونداءها يأتيه مِنْ جهةٍ ما، أنا هنا.
حينئذ اندفعَ يعدو ويلهثُ ويصرخُ، فلمْ تهبه الأجمةُ سوى ارتداد الصّوت، وأضاع الاتصال، وحدثَ ما لمْ يكنْ في الحسبان، فقدَ توازنه، وكادتْ أنفاسـه تتوقّف مِنْ هولِ المشهدِ الذي لمْ تعتاده مقلتاه، شاهدَ وحوشاً جمّة، وكل واحدة تسيرُ على أربع ومُتحفّزةـ للهجومِ عليه، وبدأ يحلمُ مرة أخرى، فهو لا حرفة له سوى المنامات، يحلم بكيفية التّملُّص مِنْ هذه الوحوش المُتوحشة التي لا يدري مِنْ أين أتتْ وماذا تعمل في الأجمة؟ عادَ قليلاً إلى الوراء، ثم جرى بكُلِّ بأسِه، ويا للدهشة، كشرتْ عن أسنانِها وجرتْ خلفه، وبلحظاتٍ قليلة، حوّلتْ معطفَه إلى قطعٍ مُمزقةٍ ولطّختْ الثّلجَ بالدّمِ، تركته الوحوش الظّالمة وفرّت، ولا يدري لماذا فرّت، أصلحَ بدنَه ودمعَ، ومع البُكاءِ شاهدَ الشّادن فوق الشَّجرة ترنو وتقهقه بلطفٍ، فلمْ ينتظر، وقامَ بكُلِّ أوجاعه، تسلّقَ الشّجرة حتى باتَ فوق أعلى فنن، لكنّه لمْ يصل إليها، وحين تطايرَ معطفُها في الهواء وشاهدَ ما شاهدَ، نطَّ ليحضنَها إلى جسدِه المكلوم، وعندها تبيّنتْ خيالاته الخادعة، في تقديرِ المسافات، تطايرَ جسدُه في الرِّيحِ وعلى الأرضِ ابتدأتْ نغمةُ الأنين، وكانتْ شادنته المقهقهة تحلّق في السَّماء مثل سحابة برتقالية، وترنو صوبه بجسدٍ ليّنٍ يضيء برغبةٍ قاتلة، وترقّبَ نُزُولَها.