يزداد هذه الأيام الحديث يوماً بعد يوم عن تلاشي النفوذ الأمريكي، وخاصة في الشرق الأوسط بعد أن بدأ العديد من الدول يبدو وكأنه يتمرد على الإرادة الأمريكية، من البرازيل حتى منطقتنا. لا شك أن الصراع بين أمريكا والصين، ودخول الأخيرة على خط الأزمات في بلادنا يجعل مثل هذا الرأي رائجاً ومنطقياً، لكن هل هذه هي الحقيقة فعلاً؟
أليس هناك بديهيات يجب ألا نتجاوزها ونحن نحلل هذا الأمر؟ ألم تسمعوا يوماً عما يسمى بـ»التضليل الاستراتيجي» الذي تمارسه أمريكا وتعترف به بعظمة لسانها؟ كم مرة كرر كسنجر على مسامعنا أن أمريكا تفضل إدارة الأزمات بدل أن تحلها؟ متى بربكم تمرد المصنوع على الصانع تاريخياً؟ أليس بعض القوى الصناعية الكبرى كاليابان وكوريا الجنوبية وحتى الصين هي صناعة أمريكية أصلاً، فما بالك بالقوى الصغرى التي تعتمد على سلعة استراتيجية يتيمة ألا وهي النفط، وتستورد كل مستلزماتها الدفاعية من أمريكا وتعتمد على الحماية الأمريكية من «طق طق حتى السلام عليكم»؟
كيف تريدوننا أن نصدق أن أمريكا التي فرضت على النمسا أن تطرد زعيماً منتخباً ديمقراطياً ألا وهو يورغ هايدر، لأنها اشتمت في تصريحاته رائحة معاداة السامية، كيف تريدوننا أن نصدق أنها صارت عاجزة عن مواجهة أدواتها الصغيرة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط؟ هل يصل أي زعيم في المنطقة إلى السلطة أصلاً من دون ضوء أخضر أمريكي بربكم؟ هل تغير زعيم في الشرق الأوسط إلا بمباركة أو إيماءة أمريكية؟ من أسقط القذافي وصدام حسين مثلاً؟ لا تقولوا لي مثلاً إن الثوار الليبيين هم من أسقطوا القذافي، أو أن المعارضة العراقية هي من أسقطت صدام حسين، أو أن بشار الأسد انتصر على أمريكا. أليست كل التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية وحتى الدينية في بلادنا مدفوعة بضغوط أمريكية من أجل المصلحة الأمريكية؟ ألم يتوقع المفكر الكويتي عبدالله النفيسي قبل حوالي ربع قرن التحولات الاجتماعية والدينية التي تحدث اليوم في منطقتنا؟ ألم يقل إن الأمريكيين والإسرائيليين يحتاجون لتغيير طبيعة الشرق الأوسط كي تصبح أكثر ملاءمة لمخططاتهم ومصالحهم؟ ألم يتوقع اجتثاث الإسلام السياسي وأي مجتمعات قائمة على أسس دينية؟ هل حدث ذلك أم لم يحدث بربكم؟ ألا ترون التحولات الاجتماعية الرهيبة التي تجتاح المنطقة تماماً كما توقع النفيسي حسب المذاق الأمريكي تماماً؟ ثم يأتينا محلل ذو رأس مربع ليتحدث عن انهيار النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، بينما نرى بأم أعيننا أنه حتى الثقافة العربية الصاعدة كلها بتوجيه أمريكي مفضوح لا تخطئه عين. وقد اعترف كبار المسؤولين العرب بأن مجتمعاتهم السابقة لم تكن صناعة عربية أو محلية مطلقاً، بل كانت مطلوبة أمريكياً لمواجهة الخطر السوفياتي. باختصار نحن في المنطقة كنا وما زلنا مجرد أدوات أو فئران تجارب لا أكثر ولا أقل خدمة للمشاريع الأمريكية، فهل تستطيع الفئران في المختبر الأمريكي أن تتمرد على صاحب المختبر؟ لماذا سقط الزعيم الباكستاني عمران خان بالأمس القريب رغم أنه منتخب ديمقراطياً ورغم شعبيته الكبيرة في أوساط الشعب الباكستاني؟ البعض يقول إن الجيش أسقطه، والبعض الآخر يقول إن الديمقراطية الباكستانية أسقطته. قال الجيش أسقطه قال. وكأننا لا نعرف مدى ارتباط هذا الجيش والأجهزة الأمنية بأمريكا.
أليس بعض القوى الصناعية الكبرى كاليابان وكوريا الجنوبية وحتى الصين هي صناعة أمريكية أصلاً، فما بالك بالقوى الصغرى التي تعتمد على سلعة استراتيجية يتيمة ألا وهي النفط، وتستورد كل مستلزماتها الدفاعية من أمريكا وتعتمد على الحماية الأمريكية
ربما يتساءل البعض: ولماذا فشلت أمريكا في حماية منابع النفط في المنطقة عندما تعرضت للخطر؟ وهل بربكم تعتبرون ذلك مؤشراً على ضعف أمريكا؟ ألا تتذكرون ذات يوم عندما تعرضت ناقلات النفط للخطر أيام الحرب الإيرانية العراقية كيف تدخلت أمريكا وحمت كل السفن والناقلات في عرض البحار بلمح البصر؟ لماذا؟ لأن النفط في ذلك الوقت كان ثاني أهم ثابت في الاستراتيجية الأمريكية بعد إسرائيل. أما اليوم فلم يعد النفط يحظى بنفس الأهمية بالنسبة لأمريكا بعد ظهور النفط الصخري الأمريكي، لهذا لم تعد أمريكا مهتمة كثيراً بالنفط، والبعض لا يستعبد أن تكون هي نفسها قد مهدت أو ساعدت في استهداف بعض المنشآت النفطية في المنطقة. ولا تنسوا أيضاً أن الغرب كله يتحول اليوم إلى الطاقة النظيفة، وخلال أعوام قليلة لن تجدوا سيارة واحدة في شوارع أوروبا وأمريكا وحتى آسيا تعمل بالوقود التقليدي، بل كلها ستصبح كهربائية.
ولا تنسوا أيضاً أنه منذ أيام أوباما، لم تعد أمريكا ترغب في الجلوس في المقعد الأمامي، بل تركت المقعد لوكلائها وأدواتها، وباتت تجلس في المقعد الخلفي، فظن البعض أن جبروتها يتلاشى ونفوذها ينحسر، وهذا هو التضليل الاستراتيجي بعينه. لقد أعطتنا أمريكا الانطباع في القضية السورية مثلاً أنها غير مهتمة بها، بينما في الواقع كانت تدير كل شيء من وراء الستار، ويذكر أحد الضباط السوريين الكبار أن وكالة الاستخبارات الأمريكية كانت تدير كل اللقاءات بين القوى الغربية والعربية والسورية المنخرطة باللعبة السورية شمال سوريا. ويذكر ضابط آخر أيضاً أن واشنطن لم تكن تسمح للعرب حتى بتسليم الأموال للفصائل السورية مباشرة، بل كانوا يأتون بحقائب مليئة بالمال ويضعونها تحت قدمي المسؤول الأمريكي وهو يتكفل بتوزيعها. لذلك عندما تبدو أمريكا غير مهتمة بالوضع السوري فهذا لا يعني أنها تركت الآخرين يعبثون به من أجل مصالحهم الخاصة، بل إن لعبة التجاهل الأمريكية بحد ذاتها سياسة مدروسة، وقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما حرفياً: «لقد تجمع الأشرار في سوريا، دعوهم يحرقون بعضهم بعضاً». ثم كتب توماس فريدمان في النيويورك تايمز عبارة مشابهة تقول: «سيدي الرئيس اتركهم يسحقون بعضهم بعضاً في سوريا». بعبارة أخرى، فإن الأخطبوط الأمريكي يتابع كل شيء في المنطقة، وكل ما نراه اليوم من تحركات في الشأن السوري أو غيره ليس بعيداً أبداً عن العيون الأمريكية. ولا ننسى مثلاً كيف تركت أمريكا العراق حوالي ثلاثة عشر عاماً نسياً منسياً حتى انهار فيه كل شيء، ثم تدخلت في عام 2003 لتقطف الثمار. والبعض يرى أن النموذج العراقي تطبقه أمريكا بحذافيره في سوريا. طبعاً لا نقول إن الأمريكيين يمكن أن يتدخلوا عسكرياً في سوريا كما فعلوا في العراق. فهذا أصبح مستبعداً جداً على ضوء التجربة العراقية، ولا أحد يريده أصلاً، لكن لدى الأمريكيين ألف طريقة وطريقة لتنفيذه بشكل مختلف، وهم حتى هذه اللحظة يستخدمون الأنظمة العربية وغيرها في مخططاتهم كأدوات تنفيذ وخزائن تمويل لا أكثر ولا أقل.
نرجو أخيراً ألا يتهمنا أحد بأننا نطبل ونزمر للجبروت الأمريكي، لا معاذ الله، فنحن في سوريا مثلاً أكبر ضحايا المشروع الأمريكي وألاعيبه، لكننا يجب أن نضع النقاط على الحروف وألا ننجرف مع موجة التحليلات والعنتريات الكوميدية التي تجتاح الإعلام العربي هذه الأيام حول انهيار الهيمنة الأمريكية.
كاتب واعلامي سوري