لم يكن السودان بلداً طبيعياً في يوم من الأيّام، وذلك منذ سلّم المدنيون السلطة إلى العسكريين في عام 1958 بعد عامين من الاستقلال. استعاد المدنيون السلطة من العسكريين في عام 1964 ليعيدوا تسليمها لهم في عام 1969!
قصة السودان قصة فشل الأحزاب المدنيّة وقصة فشل العسكريين. صنع هذان الفشلان من السودان دولة فاشلة. لم يعد مهماً من سيخرج رابحاً من المواجهة بين قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد قوة الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي). ماذا يستطيع البرهان عمله بانتصاره... هذا إذا انتصر، وما الذي يستطيع دقلو عمله بدوره في حال قضائه على الجيش السوداني؟ ليس هناك، حتّى، واجهة يقف أحدهما خلفها. ليس هناك أيضاًِ من يمكن لأيّ منهما تسليمه السلطة الفعلية في ضوء كل ما حصل من تطورات منذ التخلص من حكم حسن البشير... الذي لم يكن البرهان بعيداً منه يوماً.
حكم البشير الذي انتمى إلى مدرسة الإخوان المسلمين، السودان ثلاثين عاماً بين 1989 و2019. مارس كلّ أنواع الألعاب البهلوانية من أجل البقاء في السلطة. بدأ بالتخلّص من الإسلامي المعروف الدكتور حسن الترابي. كان حسن الترابي عرّاب النظام العسكري الجديد الذي قام في 1989 على أنقاض حكم مدني لم يستمرّ سوى سنوات قليلة تلت سقوط حكم عسكري آخر كان على رأسه جعفر نميري.
بين الاستقلال في 1956 والسنة 2023 عندما انفجر الوضع بين المؤسسة العسكرية التقليدية ومؤسسة عسكرية أخرى، استخدمت في قمع تمرد داخلي في ولاية كردفان وغير كردفان، تناوب المدنيون والعسكر على السلطة. كانت الفترة الأطول تلك التي أمضاها عمر حسن البشير في الرئاسة، وهي فترة كشفت إلى أي حد يستطيع ضابط ممارسة الانتهازية، بأبشع صورها، كي يحتفظ بكرسيّ الحكم. لم يكتف البشير بالتخلص من الترابي الذي كان مكروهاً عربياً، خصوصاً في مصر، بسبب عقله التآمري وطموحاته التي تتجاوز السودان. ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. تخلّص من الجنوب الذي فيه أكثريّة مسيحية. قبل بتقسيم السودان وقيام دولة مستقلّة في الجنوب بدل أن يكون على رأس بلد واحد فيه حكم عاقل ومسؤول لا يفرّق بين مواطن وآخر.
أفلس نظام البشير أخيراً. لم يعد لديه ما يقدمه للناس ولم يعد لديه بضاعة يبيعها إلى الأميركيين والأوروبيين. في مرحلة معيّنة باع الفرنسيين الإرهابي "كارلوس" (اسمه إيليش راميرز سانشيز وهو فنزويلي الأصل). في مرحلة أخرى أرضى الأميركيين بإبعاد الإرهابي الآخر أسامة بين لادن إلى أفغانستان...
اضطر البشير إلى التخلي عن السلطة بسبب عاملين. الأول الإصرار الشعبي على إسقاط نظامه، والآخر تخلي كبار الضباط عنه. لعب هؤلاء الضباط دوراً حاسماً في إجبار البشير على الاستقالة والذهاب إلى السجن.
شهدت مرحلة ما بعد سقوط نظام البشير قصة فشل أخرى ناجمة عن عجز العسكريين والسياسيين عن إيجاد صيغة تفاهم بينهما. سقطت كلّ الاتفاقات التي تم التوصل إليها، وسقطت معها حكومة مدنيّة برئاسة مصطفى حمدوك كان مفترضاً أن تهيّئ لقيام نظام مدني بضمانة من العسكريين. فتحت الانقسامات بين المدنيين شهيّة العسكر إلى السلطة مجدداً. بين البرهان و"حميدتي" لم يعد معروفاً من لديه جوع أكبر إلى السلطة والنفوذ في بلد يعاني فراغاً سياسياً على كلّ المستويات، وأزمة اقتصاديّة في غاية الخطورة.
بغض النظر عمّا ستسفر عنه الاشتباكات الدائرة بين الجيش وقوة الدعم السريع، التي تمتلك قدرات مالية كبيرة، لا يمكن أن يكون هناك رابح في السودان. لن يكون سهلاً القضاء على قوة الدعم السريع التي يستفيد أفرادها من الموارد التي يتحكّم بها "حميدتي"، في مقدمتها ثروة الذهب التي يمتلكها السودان. كلّ ما يمكن قوله إن السودان دخل مرحلة جديدة تحت عنوان عريض هو مزيد من التفكّك والتشظي. لم تعد المسألة مسألة من يحكم هذه الدولة في المستقبل، وما إذا كان الحكم سيكون مدنياً أو عسكرياً. المسألة تتعلّق بدولة فاشلة بات مصيرها في مهبّ الريح.
من لم يصدّق يوماً أن السودان سيقسم بين شمال وجنوب، عليه أن يصدّق الآن أنّ أكثر من دولة، أو شبه دولة، ستقوم في السودان الذي فقد كل مقوّمات وجوده، تماماً كما حصل في اليمن وقبل ذلك في الصومال... وكما يمكن أن يحصل في سوريا ولبنان. لماذا تفادي تسمية الأشياء بأسمائها؟ هناك دولة فاشلة في السودان. دولة فاشلة ونقطة في نهاية السطر. تحتاج إعادة تركيب السودان إلى معجزة... في زمن لم يعد زمن المعجزات!