اطول يوم في حياة الزعيم رواية لنبيل عمرو تقع على متن 120 صفحة من القطع المتوسط، وهي من اصدارات دار الشروق للنشر والتوزيع في عمان ورام الله سنة 2022.
هذه الرواية تدور احداثها في يوم واحد في حياة الرئيس ياسر عرفات؛ وهذا اليوم ليس كأي يوم؛ انه اليوم الذي يسبق الخروج من بيروت على اثر اجتياحها من قبل العدو الصهيوني في 1982،
وفي الرواية الكثير من التفاصيل حول الزعيم ياسر عرفات وحقبة من حقب الثورة الفلسطينية في بيروت، وهي رواية حقيقية بوقائعها واسماء شخوصها، وبذلك تستحق هذه الرواية ان نطلق عليها اسم الوثيقة والشهادة التاريخية.
تبدأ احداث الرواية مع ساعات الصباح الاولى لليوم قبل الاخير في الخروج من بيروت، وتستمر حتى التاسعة من صباح يوم الخروج، الراوي [نبيل عمرو] والذي يطل من على شرفة مكتب الاذاعة الفلسطينية الكائنة في شارع ساقية الجنزير في بيروت العاصمة المحاصرة ليحتسي فنجان قهوته الصباحية ص٢٠.
وفي تلك الاثناء اخذته الذكريات نحو العائلة والاولاد والانطلاقة والبدايات الاولى في الاذاعة وغاب ذهنه في تفاصيل تلك الايام واستدعائها وتسجيلها عبر صفحات الرواية، لم يقطع تلك الجولة في ذاكرة الحنين لنبيل إلاّ صوت جلبة في الشارع سببها سيارة متعطلة يحاول اصحابها دفعها بغية تشغيلها.
يشرع احد المتحلقين حول السيارة بالنداء والتصفير لنبيل عمرو، كان نبيل مازال على تلك الشرفة يستطلع الامر..
كانت المفاجأة بأن تلك سيارة [الزعيم] ياسر عرفات، وكان الشخص الذي ينادي ويلوح لنبيل فتحي الرازم الملقب ب [سلبد] كبير مرافقي ابو عمار. كان سلبد يشير لنبيل بان يرمي له مفتاح سيارته وان يلتحق بهم سريعا...
استوعب نبيل الامر ورمى بمفتاح السيارة لسلبد لاخراجها من الكراج بغبة تأمين نقل الزعيم الذي بدأ الناس بالتجمع والتجمهر حوله امام الفرن المقابل لمبنى الاذاعة.
وبالمصادفة تمر سيارة للامن الموحد ويصعد بها ابو عمار ويلحق به سلبد ونبيل بسيارة نبيل.
في السيارة يسال نبيل سلبد ماذا يفعل ابو عمار في الساعة ٦ صباحا في هذا المكان الذي تعطلت فيه السيارة؟ يجيب سلبد : كنا في زيارة للمخبز المقابل لكم في الاذاعة، لقد جاءت عدة شكاوي للزعيم على المخابز المركزية، وقد جاء ابو عمار ليطلع على الامر بنفسه بغية معالجته ، وحصل ان تجمهر الناس وتعطلت السيارة.
ينطلق سلبد ونبيل خلف [الزعيم] ابي عمار نحو مقر جهاز الامن الموحد، فيجدوه هناك ويلتحقون به، ومن هنا تبدا رحلة الرواية في سيارة نبيل وبرفقة الزعيم،.
تأخذنا سيارة نبيل في جولة بصحبة الزعيم ياسر عرفات تمتد ل ٢٤ ساعة الاخيرة لابي عمار في بيروت، اي حتى صباح اليوم التالي من الخروج، وفي هذه الجولة يزور الزعيم جملة من الاماكن والمواقع [بلغت احدى عشرة حسب الرواية] :
الزيارة الاولى كانت لمقر جهاز الامن الموحد الذي يقوده ابو اياد ص٢٩.
والثانية لمنزل حجري قديم ص٣١ والذي يحتوي مكتب يخص اتحاد طلبة فلسطين فرع جامعة بيروت ، وفيه يبدأ ابو عمار بعقد اجتماعاته، ويطلع على سيل من الاوراق ويبدي رايه فيها ويصدر قراراته ويوقع على اخرى، وكل ورقة يؤشر عليها بقلم ولون خاص، تلك الاقلام الموضوعة على جيب كتفه ، ولكل قلم فيها توقيعه واجراءه الخاص وهذا مايدركه المقربون من الالوان ص٣٦.
والثالثة : شقة فارهة جدا في مبنى زجاجي تعود لرئيس الاستخبارات الفلسطينية ص ٤٧، وفي هذه الشقة يتفاجأ ابو عمار من حجم الرفاهية والبذخ البادي عليها.
والرابعة : زيارة تفقدية للقوات المتمركزة على خطوط التماس ص٥٦، "ودع القائد العام المقاتلين وانتقلنا الى موقع اخر. كان فتحي هو دليلنا في التعريف على انتماءات المقاتلين"...ص٥٧.
والخامسة : زيارة تفقدية للضاحية الجنوبية ص٥٨ حيث اكمل الجميع بمعية الزعيم الطواف في شوارع المخيم والضاحية ص ٥٩ و٦٠.
والسادسة : زيارة تفقدية لادارة مؤسسة صامد ولقاء رئيسها احمد قريع ابو علاء ص٦١.
والسابعة : لقاء مع سعد صايل؛ "قبل صعودنا السيارة تقدم منا احد رجال العميد سعد صايل وقال هامسا: العميد يريد لقاءك باسرع وقت فمعه رسالة" ص٦٢، فيقرر الزعيم الذهاب الى منزل السيد سعادة، وهو صديق وحليف، ولا يبعد سوى مئات الامتار عن مكان تواجده الحالي ص٦٣، وهناك يلتقي الزعيم بابو الوليد في تفاصيل تبوح بها الصفحات٦٥ وحتى ٦٨.
الزيارة الثامنة : المستشفى الميداني حيث فتحي عرفات الذي يعمل رئيسا لجمعية الهلال الاحمر الفلسطيني ص ٦٩ وهناك يدور حول وجوب نقل هوائي الاذاعة من جنبات المستشفى تفاديا للقصف الاسرائيلي ويكلف نبيل بانجاز تلك المهمة...
الزيارة التاسعة: اجتماع عاجل للقيادة المشتركة [بيت حكمت] ص٧٥ اجتماع خصص لمناقشة رسالة الرئيس السوري بخصوص موافقته على استقبال اي عدد من القوات الفلسطينية في سوريا.
الزيارة العاشرة: بناية ضخمة تضم مشروع مدرسة قيد الانشاء ص٨١ وهي معقل لمحسن ابراهيم، وفي السيارة يتقرر سؤال في غاية الاهمية، كيف لهذا العدد ان يجتمع في مكان واحد دون حدوث اي خطأ ودون رصد افراد الاجتماع وتتبع حركاتهم؟ وهذا مايتولى امره سلبد، ويجري تنفيذه وفق خطة امنية محكمة تبوح بها الصفحات٨٣ :"تولى فتحي مرافق ابو عمار وابو خالد مرافق محسن ابراهيم ابلاغ القادة بكيفية الوصول الى مكان الاجتماع وباختصار...فلان وفلان وفلان يتجمعون في لوبي فندق ستراند مثلا، ويتولى فلان احضارهم، وهكذا.."ص٨٣.
وفي هذا الاجتماع يتم مناقشة شروط وترتيبات الخروج والمفاوضات الجارية حولها ص٨٧.
الزيارة الحادية عشرة : العودة من حيث البداية الى مقر الاذاعة ص٨٨ :" وصلنا الى النقطة التي التي انطلقنا منها صباح اليوم ساقية الجنزير، حيث الفرن الذي لا يعمل، ومقر الاذاعة الذي لا ينام"، في مقر الاذاعة بالذات تحدث حوارات صاخبة مع افرادها، يتولى ابو عمار الرد عليها باسلوبه المعهود، وفي هذا النقاش الحاد يتصدر امجد ناصر المشهد، ويتلقى اجوبة ابو عمار ومبرراته، ويحتد النقاش اكثر، وتظهر اثار حدة الحوار على شفة ابو عمار السفلى الاخذة بالتدلي المتزايد [البرطمة]، مما جعل الجميع يتوقعون ردة الفعل من الزعيم تجاه امجد ناصر الذي لم اخذته الحماسة والانفعال واخذ بالصراخ والاعتراض على قرار التأخير بالخروج من بيروت دون ان ينتبه لملامح ابو عمار الاخذة بالانفجار؛ ويُترك امجد في مواجهة ابو عمار وحيدا، ويتكفل ابو عمار بباقي الجلسة التي اسفرت عن توبيخ امجد وتقريعه على تماديه في حديثه، في حوار شيق ومفعم بالتفاصيل ، كل ذلك تبوح به الصفحات ٨٩ وحتى ٩٣، والتي تحتوي وتتضمن اجمل الدروس والتجارب تحت ظل الخراب والدمار الذي خلفته الحرب.
تنتهي الزيارات او تكاد في مبنى الاذاعة، وهنا وقبل ان يغادر ابو عمار مبنى الاذاعة وعلى ظهر الصفحة ٩٤ و٩٥ تتجلى اجمل صورة للفدائي الزاهد [الزعيم] تلك الصورة الغاية في الانسانية والتطهر والتي نجح بالتقاطها طاهر عدوان واشهد الجميع عليها؟؟... تلك الصورة موجود تفاصيلها على ظهر ص ٩٥ من الرواية.
"بدا ضياء الفجر يتسلل من فراغات الستائر المعدنية. كان ضياء فضيا يؤذن باكتمال دائرة اطول يوم في حياة الزعيم".ص ٩٩
باكتمال مفاوضات الخروج تكتمل احداث الرواية وتبوح سريعا بباقي تفاصيلها: فهذا هو الزعيم يلتقي ابو جهاد وابو اياد ويضعوا الرتوش الاخيرة، يعقبها لقاء ابو عمار مع العميد سعد صايل والذي عرض كل ترتيبات الخروج للقوات، بالاضافة الى عرضه ماتم الاتفاق عليه بشأن ترتيبات مغادرة ابو عمار الخاصة ص ١٠٥.
فيقول العميد ابو الوليد بهذا الشأن:" لقد حصلنا على كل ماطلبنا...انهم متلهفون لمغادرتك بعد ان تعذَّر قتلك..".ص ١٠٥.
ويتابع الزعيم ما عرضه ابو الوليد بشأن ترتيبات الخروج، ويتبين الخيط الاببض من الاسود، لكن مايشغل ذهن ابو عمار لم يبح به لحد الان العميد. فيسأله ابو عمار عن الثمن السياسي، فيستل ابو الوليد ورقة من الملف وقال: هذا هو الرد الامريكي على طلبك بالحصول على ثمن سياسي لقاء الخروج...ص ١٠٦ و١٠٧ و١٠٨ وهي صفحات تحتوي احداثا دراماتيكية واخبارا مرة ومحزنة وقاسية.
من الجميل ترك العقل يبحر بالتفاصيل وتأليف الاحداث عبر كل موقع ومكان من المواقع الاحدى عشرة التي زارها ابو عمار في اطول ايامه حسب راي الكاتب وحسب عنوان الرواية، تلك الزيارات والجولات العشرة تتخللها حكاية مزدحمة بالاحداث والتفاصيل ابدع نبيل في نقلها لنا عبر صفحات الرواية كمصوراتي محترف، حيث يبدع في التقاط الصورة وزمانها ومكانها، لكن الاهم والاجمل في تلك الصور بالاضافة للزمان والمكان تلك الزاوية الغير مرئية بالنسبة للكثيرين، ولا تلتقطها الا اعين الحاذق وصاحب الخبرة والدراية بدهاليز السياسة وبشخصية الزعيم ياسر عرفات.
فمثلا نجد صاحبنا يلتقط بعينه الثاقبة صورة وموقف لياسر عرفات في تلك الايام عجزت عن التقاطه كل مراكز البحث والرصد والدراسة ، مثل ذلك الموقف الانساني الذي يشير الى كيفية تعاطي أبو عمار مع ملابسه الممزقة او المهترئة، فتجده "يضع بنطاله على ركبتيه ويقوم بخياطة الممزق منه، أو كيف حين شممنا رائحة الحطب في "برج البراجنة"، أوقفنا السيارة لنحصل على رغيف من "خبز الشراك" من السيّدة التي كانت تعده.. أكتب بهذه الروح، وبهذا التسجيل الدقيق للتفاصيل التي قد تبدو بسيطة لكنها تحمل معاني كبيرة".
ونبيل عمرو عبر كاميرته متعددة الابعاد والاهداف عمل في هذه الرواية وابدع كجواهري ماهر لاتخطئ عينه الذهب الحقيقي من المزيف، والصحيح من الكذب في العلاقات الانسانية، والممكن والمستحيل في السياسة، صاحبنا كان بالقرب من مصدر الاشعاع، فنجح بالتقاط الكثير من ايماءات الزعيم ومقاصده دون ان يبوح بها الزعيم او تحسب عليه .
نبيل في هذه الرواية كصاقل للماس يعرف اي الالماسات تتسيد العقد الذي يتوشح به صدر بيروت الصمود.
ونبيل في هذه الرواية الصادقة والماتعة والمشوقة لم يكن بحاجة لاي درب من دروب الخيال ليكمل البناء الفني لنصه الروائي الذي بين ايدينا؛ ذلك ان ما حدث للثورة الفلسطينية في بيروت وفي كل معاقل تواجدها وفي اسفارها وحلها وترحالها ، يفوق قدرة مخيال الانسان على ان يأتي بوصف كالذي حدث، فالفلسطيني الكاتب والمبدع والمناضل ذو الاحاسيس المرهفة والصادقة والمنزرع في ارضه والمنغرس في صفوف ثورته، لم يكن بحاجة الى كثير من مهارات الابداع في الكتابة والخيال ليبني عالمه الروائي؛ يكفي انه عاشها بكل عذاباتها وتفاصيلها وعلى طول الايام وبكل الالوان.
فالفلسطيني عموما، وماحدث معه منذ النكبة، يفوق الوصف والخيال، لكن تبقى مهمة الكاتب والاديب والروائي، القدرة على التقاط تلك الصورة وتوثيق تلك اللحظة واعادة بثها بلغته الخاصة.
ورغم ان القدر عاند الفلسطيني في محطات عدة وتخلى عنه في مراحل كاملة؛ إلا انه والحق يقال بانه كان ولازال مبعث الامل في قادم الايام ولو عبر تفاصيل صغيرة جدا...خذ مثلا هذه الرواية!
فلو لم يكن صاحبنا يشرب فنجان قهوة الصباح على "بلكونة" مقر الإذاعة الفلسطينية، في صبيحة ذلك اليوم، لما نجح برصد تفاصيل ذلك اليوم، ولما كانت هذه الرواية الماتعة والمشوقة بين ايدينا.
فطوبى للذين يكتبون حكايتهم ويصنعون تاريخهم بايديهم، فهؤلاء وحدهم من تحفظهم صفحات التاريخ حبا وطواعية...