لقد بدا من المؤكد بأن العنف أمسى ظاهرة في المجتمع العربي في البلاد بل أصبح من الظواهر المميزة والخطيرة فيه.
ويلاحظ أنها ازدادت بشكل كبير منذ مطلع عام 2000 ومباشرة بعد إخماد انتفاضة الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الضفة الغربية، حين تسرب اليأس إلى قلوب الشباب العربي فباتوا يعيشون في دائرة مفرغة دون العثور على أي حلول لمشاكلهم الحياتية تلوح بالأفق حيث اتضح ان هذه الفئة من الشباب لم تضع نصب عينيها أي أهداف سياسية اقتصادية أو اجتماعية.
ويبدو أن الافتقار للقيادة السياسية العربية أو ضعف هذه القيادة هو أحد العوامل التي أدخلت المجتمع إلى هذه الدائرة المفرغة والتي بدأت تتغلغل وتتطور تطورا سريعا في مجتمع رأسمالي يقدس المال والحرية الاقتصادية التي بدأت تبدو صعبة وبعيده المنال لهؤلاء الشباب.
في ذات الوقت، تطوّر المجتمع الإسرائيلي بشكل واسع النطاق باتجاه الرأسمالية والحرية الاقتصادية المطلقة واخذ مجرى باتجاه العولمة والاندماج بالاقتصاد العالمي.
وقد حازت فئات كبيرة من المجتمع الإسرائيلي على هذا الانتعاش الاقتصادي وبدأت طبقة اقتصادية وسطى من المجتمع اليهودي بالتبلور بينما تراجعت في هذه الفترة الزمنية ذاتها شرائح واسعة من المجتمع العربي الى الوراء ولم تعُد تشكل جزءا من الركب الاقتصادي العام ليصبحوا على خط الفقر؛ ففي الوقت الذي بلغت نسبة السكان العرب في البلاد الى 22% فقد بلغت نسبتهم القابعة على خط الفقر حوالي 50%. ويمكن إضافة عامل سياسة الاضطهاد الاقتصادي الشرسة التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه المواطنين العرب بما في ذلك ما يتعلق بتضييق مساحات السكن والبناء والترخيص في القرى والمدن العربية، عاملا مهما في إحكام طوق الفقر على أعناق المجتمع العربي.
ففي نفس الوقت الذي بدأت فيه حكومات إسرائيل بعملية توزيع سكاني لليهود من المركز الى الضواحي والأطراف في الجليل والمثلث والنقب، فأنها بدأت تزجّ بالسكان العرب في غيتوات في هذه القرى والمدن، وتستعمل قبضة حديدية تتعلق بمنع توسيع هذه المسطحات وتستعمل سياسة هدم مشددة كقانون كامينتس حيث يعتبر هذا القانون الوحيد من نوعه في العالم والذي تُهدم فيه البيوت العربية بحجة عدم الحصول على الترخيص.
وكان لسياسة التضييق هذه الأثر الأكبر الذي أدى الى انتشار وتفشي الفقر وانفلات عشرات الالاف من الشباب العرب نحو مستقبل اقتصادي حياتي مجهول يفتقر إلى أي اطر مهنية او علمية لهؤلاء الشباب إضافة الى الازدياد الديموغرافي في عدد السكان العرب ليصل الى 2,2 مليون نسمة من أصل 9 ملايين نسمة وهو عدد سكان إسرائيل. وفي الوقت الذي لم يجد الكثير من الشباب المسار الحياتي المهني الاقتصادي الصحيح، تسارع الانزلاق نحو العنف والاقتتال الداخلي العنيف الذي اودى سنويا منذ عام 2010 بحوالي 1500 شخص أي بنسبة تزيد عن 120 قتيلاً في العام.
وبعد ان ظهرت بوادر عولمة جديدة في المجتمع العربي متمثلاً بتراجع سريع في سلطة الأب ورأس العائلة، ازدادت ظواهر عنف جديدة كالصراعات العائلية والقبلية والتي ظهرت جلية في كل قرية ومدينة وخلّفت ضحايا جديدة تكبدها هذا المجتمع الذي كان يوما ما مجتمعا محافظا بامتياز.
كما ان شكل القرية والمدينة العربية وعدم وجود سلطة محلية او بلدية قوية تضبط الأمور المحلية، الثقافية والتربوية والاقتصادية كانت أيضا من العوامل المعرقلة لمواكبة ركب التطور ووضع الخطط المتعلقة ببناء الإنسان العربي الجديد. لقد اخطأت الجماهير العربية عندما استمرت في انتخاب الأشخاص غير الأكفاء على مدى عشرات السنين بحيث كان لهم الدور الحاسم في تأخير المجتمع العربي فهم لا يملكون الأسس والوسائل للسير مع ركب المجتمعات الحديثة لا بل أصبحوا عاملاً من عوامل التأخر. وعلى الرغم من ذلك فان مجتمعنا مستمر في وضعهم في الصفوف الامامية.
وإزاء هذه التغيرات البنيوية والجوهرية في دولة تنظر الى المواطن العربي بشكل دوني وخاصة في حقل الاعلام ومؤسسات الدولة والشرطة فقانون القومية الذي سن قبل عدة سنوات اقر وبشكل واضح بان المواطنين العرب هم مواطنون من درجة ثانية ويمكن ان يكونوا بدرجة ثالثة او اكثر، وفي هذا المقال لن اركز على سياسة التمييز بل على نتائجها بكل ما يتعلق بتصاعد العنف في المجتمع العربي. وفي مطلع ابريل 2023 سرب وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير محادثة سرية مع المفوض العام للشرطة كوبي شبتاي تحدثا فيها عن العنف في الوسط العربي ومن ضمن ما قاله المفوض بان طبيعة العرب هي العنف والقتل ولا نستطيع عمل الكثير من اجل منع ذلك؛ اما بن غفير فهدفه واضح وهو كسب التأييد الحكومي والجماهيري من اجل إقامة حرس وطني مسلح يجوب البلاد شمالا وجنوبا ويستهدف بالأساس العرب؛ اما المفوض العام فأهدافه مختلفة وتتمثل بأنه لا يفعل أي شيء لكبح الجريمة بالوسط العربي بل يمكن ان يساعد في تأجيجها؛ وفي مقابلة في منتصف نيسان 23 قال شبتاي ان الشرطة تهتم بالأساس في ضبط النظام في الوسط اليهودي في الدرجة الأولى ومن ثم الحفاظ على مظاهرات الاحتجاجات المنتشرة في البلاد؛ أي ان العنف في الوسط العربي ليس من أولوياته فلو حدثت مثلا جريمة قتل مزدوجة في المثلث او النقب فان الشرطة تأتي بعد وقت ما لتسجل تقريرها حول هذه الحادثة ولكنها لا تكترث ولا تبذل جهداً في التحقيق وحل لغز الجريمة لأنها تؤثر صرف الميزانيات في أماكن أخرى في الوسط اليهودي بحيث يبقى الوسط العربي يرزح ويعاني من تصاعد هذه الافة .
وهناك جانب اخر يتناوله الباحثون في قضية العنف المتزايد بالوسط العربي وهو تحليل مقارن؛ فأمريكا مثلا انتهجت في مطلع الستينات سياسة قاسية تجاه المجتمع الأمريكي الأسود عندما اغرقتهم بالسلاح الامر الذي زاد من عمليات القتل هناك واستمر ذلك حتى مطلع الثمانينيات عندما رفع المجتمع الأسود ايديه بشكل كامل امام النظام الأمريكي الأبيض, لا يوجد اثبات مؤكد بان هذا هو النهج الذي تنتهجه إسرائيل تجاه الأقلية العربية بكل ما يتعلق بازدياد العنف والضحايا فيه والطريق المسدود الى إيقافه. .
ولكن النتيجة الحتمية المؤكدة هي أن إسرائيل ومن خلال ازدياد هذا العنف في الوسط العربي حققت دونية كاملة تجاه العرب في المجتمع الإسرائيلي بحيث تفتتح نشرات الأخبار العبرية بعمليات القتل في النقب والجليل والمثلث، وهناك صحافيون إسرائيليون عينوا لهذا الغرض ويتابعون اعداد القتلى وأماكن حدوث عمليات العنف ولكنهم لا يفعلون أي شيء لإيقاف تلك الآفة حيث يستفيق الجمهور العربي يوميا على إصابات وقتل بين عصابات الاجرام وضحايا يقتلون بالخطأ أيضا.
وأمام تفاقم هذه الظاهرة، لا نرى أي تحرك عربي محلي لمواجهتها مواجهة صارمة من قبل رؤساء المجالس المحلية والبلديات والنواب العرب بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية، وجمعيات المجتمع المدني الذين عليهم العمل على إيجاد استراتيجيات واضحة المعالم والاستعانة بباحثين وخبراء في الجريمة والمجتمع، والعمل بشكل بحثي مقارن مع ظواهر حدثت في أماكن اخرى من العالم، وعليهم أيضا الاجتماع والخروج بنتائج سريعة لمواجهة هذه الظاهرة على الصعيد المحلي والحكومي والعالمي.