تناولت في مقالة سابقة موقف إسرائيل من السلطة الوطنية، وانتهيت إلى ان خيار السلطة هو الخيار السيء، وحلها هو الخيار الأسوأ . وهذه الرؤية تعكس أن أي تسوية سياسية بالنسبة لها لا تقوم على حل الدولة الفلسطينية ، لأن قيام الدولة بكل مضامينها وأبعادها وتداعياتها لا توافق وألأهداف البعيدة للإيدولوجية الاسرائيلية التي تقوم على فكرة الدولة الكبرى لإسرائيل.
وبالمقابل الرؤية الفلسطينية تأتي مناقضة لذلك، وتقوم على فكرة أساسية جوهرها الكينونة الفلسطينية التي تجسدها في اعلى درجاتها السياسية الدولة الفلسطينية ، اي مفهوم الدولة ألأمة ،التي تعبر عن الهوية الوطنية والقومية والحضارية للشعب الفلسطىني. وبدون هذه الدولة يبقى مفهوم الشعب الفلسطيني قاصراًَ، ومجرد مفهوم لفظي . ولا تكتمل صفة الشعب إلا بإكتمال العناصر الثلاث الأرض التي يعيش عليها هذا الشعب، والسلطة ، ومن خلال التفاعل بين هذه ألأركان الثلاث تتولد الهوية الوطنية الخاصة بهذا الشعب.
وفي هذا السياق لا يستقيم الحديث عن إنهاء الإحتلال الإسرائيلي وقيام الدولة الفلسطينية والسلطة تفتقر لأبرز خصائصها ، وهيى السلطة بالمعنى السيادي الممارس على ألأرض والسكان. وبدون هذه المعنى تفتقر الدولة جوهرها، وكأن الفلسطينيين مجرد عنصر سكاني ، والسلطة تقوم بوظيفة خدماتية ، هذا الفهم مرفوض فلسطينيا. والفلسطينيون يريدون سياده بالمعنى الذي جاء به جان بودان الذي عرف السيادة بأنها السلطة العليا التي يخضع لها المواطنون والرعايا، ولا يحد منها القانون. والسيادة عنده دائمة وديمومتها من ديمومة الدولة ، وأن السلطة المؤقتة لا توصف بالسيادة، وأنها سلطة مطلقة ، بمعنى أن صاحب السيادة لا يخضع أبداً لأي إرادة أخرى، وأنها سلطة لا تقبل النقض بمعنى أن صاحب السيادة يستطيع ان يسن القوانين للجميع.
هذه المواصفات لا تتوفر للسلطة الفلسطينية الحالية والتي جاءت نتيجة إتفاقات أوسلو ، وهي إتفاقات مع إحتلال، وتحدد العلاقة بين السلطة المحتلة وسلطة تحت الإحتلال، وهنا لدينا سلطتان سلطة عليا تمثلها وتمارسها إسرائيل السلطة المحتلة ، وسلطة أدنى تمارس وظائف خدماتية أمنية شرطية بعيدة عن اي مظهر من مظاهر السيادة ، المطلوب الآن مراجعة كاملة لإتفاقات اوسلو ، ومن ثم مراجعة كاملة لماهية السلطة القائمة ، وهي سلطة وظيفتها ديمومة الإحتلال.
هذا الفهم لا يتفق والمطالبة بقيام الدولة الفلسطينية الكاملة ، والتي تقوم بإنهاء الإحتلال.
إذن الفلسطينيون امام حالة مركبة تشتمل على مرحلتين الأولى مرحلة الإحتلال ، وفيها ينبغي تحرير السلطة من مفاهيم التبعية والوظيفية للإحتلال وهذا يتطلب التحرر من القيود التي فرضتها إتفاقات اوسلو، وإعادة صياغة ماهية السلطة ، وتحولها إلى سلطة كفاحية ،لكن في هذه المرحلة لا يمكن الحديث عن سلطة بالمعنى البوداني ، فوظيفة السلطة في هذه المرحلة العمل على إنهاء الإحتلال وليس تكريسه، ومنحة الشرعية .
السلطة في هذه المرحلة تمارس قدرا او الحد ألأدنى من السلطة السيادية ، بل ينبغي ان تتحول لآداة لإنهاء الإحتلال، هذه المرحلة مهمة وضرورية في التمهيد للسلطة السيادية ، بل قد تكون مسبقة وحتمية للسلطة في مرحلتها الثانية ، وهي مرحلة إنهاء الإحتلال. والتساؤل هنا هل من سلطة كاملة السيادة مع إنهاء الإحتلال؟
قد تكون الإجابة نعم من الناحية النظرية والقانونية ، لكن خصوصية الحالة الفلسطينية ، وخصوصية التداخل والترابط بين إسرائيل وفلسطين ، جغرافياً وأمنياً وبشريا وإقتصاديا قد يفرض بعض القيود على السلطة الفلسطينية حتى في مرحلة إنهاء الإحتلال، بمعنى اننا لن نكون أمام سلطة كاملة السيادة ، كما هو الحال لأي سلطة في أي دولة اخرى ، وقد تفرض بعض القيود ألأمنية والإقتصادية ، والمكانية ، لكن التعامل مع السلطة في هذه المرحلة تكون قاعدته سلطة بدون إحتلال، وبالتالي درجة التحرر تكون اكبر، والممارسة المباشرة على ألأرض والسكان تكون اكبر، وممارسة السلطة القانونية تكون كاملة.
وهذا ما يعني اننا أمام نموذج جديد لحالة السلطة يقوم على السلطة السيادية الوظيفية ، ولدينا نماذج كثيرة مثل الحالة السويسرية والنمساوية واليابانية ، المعيار هنا السيادة الكاملة من منظور الممارسة القانونية ، وهنا يدور الحديث عن سلطة بدون إحتلال، سلطة تحكمها إتفاقات إنهاء الإحتلال ،ألأمر الذي يحتاج إلى تكييف للسلطة مع واقع سياسي جديد تحكمه إتفاقات إنهاء الإحتلال.
وفي النهاية هذا يضعنا امام نموذج مغاير لكل النماذج المتعارف عليها في أدبيات السلطة السياسية.