الحلقة الأولى
استدرك بداية ً أن هذا القسم هو مقدمة للقسم الثاني الذي هو أساس ومحرك هذه المقاربة التي افتتحها بالقول:
لم يعد الفلسطيني يتيماً، فالآن ثمة خارطة واسعة من حركات ودول وقيادات حقيقية تضع فلسطين على جدول أعمالها، الأمر الذي أوجبه ليس قانون الانحياز للعدالة ورفض الظلم فقط، رغم أهمية هذا العامل الأخلاقي وإنما أيضا لرسم مستقبل الإقليم . ففلسطين تتموضع في مواجهة الاستعمار العنصري والهيمنة الامبريالية، وهي بالتالي ركن ركين في جبهة المقاومة التي أثبتت قدرة على الصمود والاشتباك والتركيم بما يؤهلها فعلا لرسم مستقبل الإقليم ، ليس كشعار إيديولوجي كما كان الحال من قبل، بل كشعار إيديولوجي موجه وإمكانات عملية ، وهذا لا يكون إلا بالمرور في البوابة الفلسطينية .
وكيلا اكرر ما نشرته في مقالات سابقة، سوف يذهب هذا النص لمساحات أخرى تبدأ بالإشارة أن الشعب الفلسطيني وجد ليبقى ، كما حال عشرات الشعوب التي خضعت للكولونيالية وشملتها مرحلة التحرر الوطني بعد الحرب الكونية الثانية . أن التاريخ الفلسطيني مفوّت ولكنه يقف اليوم على منعطف مرحلة جديدة. ومثلما ذهبت أدراج الرياح أوهام ( أن فلسطين بلا شعب ) و( الكبار يموتون والصغار ينسون ) و( التطبيع دون الفلسطيني ) كجزء ( من أبراهام لمحاصرة ومواجهة إيران ) و( العربي يخضع للقوة ) و ( لبنان بداية شرق أوسط جديد و( سقوط دمشق يمهد لسقوط بغداد وطهران ) ومن جانب آخر انتقال الإستراتيجية الأمريكية من ( الاحتلال العسكري ) إلى ( إستراتيجية تحريض قوة دينية متطرفة لإشعال الحريق وبعدها وضع اليد ) نشرت الصحافة الأمريكية 2013 ومنها إلى ( إستراتيجية الحرب الناعمة الفكرية لتأزيم الوضع الداخلي ...) يضاف لذلك استباحة كل ما هو فلسطيني ، فسوف تفشل كل المخططات الجديدة . ولكن لماذا؟
ليس لأن الفلسطيني أكثر من 15 مليون ويتشبث براية الكفاح ، وان انحنت سواعد تنهض سواعد أخرى ، وان مضى جيل يحل محله جيل أخر، وهذا عامل ذاتي له وزنه ، رغم ما يعتور هذا العامل من اخلالات ( أخطاء وخطايا) الحكيم .د. حبش ولكن للعامل الموضوعي ، وهو الأكثر ثقلا وفاعلية ، أي هبوب رياح جديدة وروح جديدة على الإقليم والعالم ، مرحلة جديدية عنوانها انحسار هيمنة وهيبة وقدرة القوى والاحتكارات التي خطفت التاريخ في العقود الأخيرة ونهبت وأذلت الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها ، فهذه المرحلة تغادر ويتشكل في أرحامها عوامل مرحلة تشهد صعود القوى والنظم والشعوب الساعية للتحرر والسيادة ( قوى التحرر الوطني والتنمية المستقلة وقوى التحرر الاجتماعي والثقافي ) فالزمن هو زمان هذه القوى المكونة من ألوان قوس قزح التي لا يمكن وقف صيرورتها في الزمن القريب والمتوسط والبعيد إلا أن اندلعت حربا نووية شاملة تفني البشرية بأسرها . وهذا مستبعد حتى اللحظه.
وعليه، فمهما حاولت قوى الأمس صلب التاريخ في مرحلة الأمس فلن تنجح. فهل نجح الإقطاع وإيديولوجيته ونبلائه وقصوره في منع التحول الرأسمالي الذي بدأت نوياته في ايطاليا في القرن السادس عشر واشتد في بريطانيا في القرن السابع عشر وتجلت دراماتيكيته في الثورة الفرنسية 1789وما تلاها من تغيرات ؟ وهل نجحت قوى الاستعمار والرأسمالية في الحيلولة دون انحسار الكولونيالية واستقلال عشرات المستعمرات ، وهل نجح غزو 14 جيشاً أوروبيا لتهشيم " البيضة قبل أن تفقس) وصف تشيرشل ثورة أكتوبر الروسية 1917 التي قادها حزب عمالي قادر على الانتصار ؟
أي ثمة ثلاثة إخفاقات كبرى ( إخفاق الإقطاع وإيديولوجيته والذي استمر مئات ومئات السينين ، وإخفاق الكولونيالية وإخفاق الطبقات والمؤسسات العميقة في روسيا القيصرية .
واقرب من ذلك هل نجحت المؤامرات والعقوبات وحملات الشيطنة والتضليل في إسقاط أو تفكيك او شل الجمهورية الإيرانية وقطع الطريق على مشروعها الاستقلالي وامتلاكها العوامل التي جعلت منها قوة إقليمية والعمود الفقري والسنيد الحيوي لمحور المقاومة ؟
فالحكيم د. حبش منذ اندلاع الثورة الإيرانيه 1979صرح غير مره إنها ( ثورة تقدمية ) فهي تتمتع بقاعدة شعبية واسعة وليست مجرد نخبة أو انقلابا ، وتقدمية في مضامينها وتوجهاتها التي فككت التبعية والارتباط وتسلحت بالسيادة والتحرر الوطني ناهيكم انها حُبلى بنزعات السير للأمام ل 85 مليون نسمة و1.5 مليون كم2 وثاني دولة من ناحية الاحتياط الغازي.
والمفكر كريم مروة كتب عن التحالفات في البيئة العربية ، أما الفيلسوف الكسندر دوغين فبلور رؤية عن التعددية القطبية والتحالفات على مستوى عالمي بما فيها إقليم الشرق الأوسط بما يتسق مع مقولة ماوتسي تونغ ( من الواقع إلى الوعي ، ومن الوعي إلى الممارسة ) فالبشر يصنعون تاريخهم ووعيهم الاجتماعي وخياراتهم ...
أن الرياح الجديدة والروح الجديدة هي مزيج من التحولات العميقة التي تذهب بعيداً في حق تقرير المصير والتخلص من املاءات المركز الامبريالي وثقافة الأنانية المفرطة والعجرفة الجامحة واستحواذ 3% بمعظم ثروات الكرة الأرضية و25% من البشرية دون خط الفقر و800 عاطل عن العمل و900 مليون يشربون مياه ملوثة ومئات الملايين في مدن الصفيح والعشوائيات والآفات الاجتماعية المدمرة ... ناهيكم عن نشر الحروب وأهمها حاليا الحرب الأطلسية على روسيا أي " مطحنة الدم في اوكرنيا " أكاديمي روسي .
هذه الحرب تضع التاريخ على منعطف وهي تؤسس للمرحلة الجديدة . وانجلز الذي استنبأ في أواخر القرن التاسع عشر "بسقوط عشرات التيجان " ثمة ما يكفي من الأسس التي تسمح بالقول أن سطوة الاحتكارات متعددة ومتعدية القوميات سوف تنحسر وتتبخر الاوليجارشيه والأدوات المحلية المرتبطة بها في عديد من الدول وهذا نلحظه اليوم في أمريكا اللاتينية (10% من البشرية ) وفي روسيا والباكستان ( دولة نووية ب 220 مليون نسمة ) وتمردات في غير دولة افريقية ... ولا تعوزني الجرأة للقول أن كل من لا يتكيف مع الرياح الجديدة سوف يجد نفسه في صدام مع اتجاه حركة التاريخ.
والذي يتابع الوثائق الرسمية الصينية يلاحظ دون كبير عناء أن الصين لا تتحول لمصنع العالم فقط بل عنوان للتكنولوجيا وآخر قفزات الثورة التقنية والرقمية والقدرة على تنفيذ مشروعات تنموية في " دول المحيط" بتكاليف لا تصل نصف تكاليف الشركات الرأسمالية الغربية وبناء على ( أولويات هذه الدول ودون شروط سياسية وعلى قاعدة المنفعة المتبادلة ، في وقت تتعاظم فيه الثقافة الإنسانية المناهضة للعولمة المتأمركة ( في أهم اجتماع لتأسيس العولمة الرأسمالية شارك فيه 116 احتكارا كان من بينها أكثر من 100 احتكار أمريكي ) مسنودة بطبيعة الحال ، بيونايتدبرس واسيوشيتدبرس الأمريكيتين الأكثر سطوة إعلامية على العقل البشري من خلال سيطرتها على الخبر ومعظم الأفلام والبرامج ناهيكم عن السوشال ميديا والعالم الافتراضي .
وبرامج الحزب الشيوعي الصيني صريحة ( بناء اشتراكية بخصائص صينية ) لنحو 1.5 مليار نسمة بقيادة حزب قوامه 97 مليون وأكثر منهم منظمة شبيبه . والصين تتفاخر بحكمتها وطول نفسها فهي لا تتعجل الحرب ( إنتقد فيديل كاسترو القيادة العراقية : ما كان عليكم أن تستفزوا الحرب والأجدر أولا توحيد الجبهة الداخلية ، وان خضتم الحرب عليكم الاستمرار فيها للنهاية ....) وامريكا بداهة لن تلقي راية الهيمنة والعولمة من تلقاء نفسها ، ولكنها مهما فعلت لن تستطيع وقف المشروع التنموي الصيني ورياح السيادة والتحولات الاجتماعية التي تطرق أبواب مساحات واسعة من الكرة الأرضية بما فيها إقليم الشرق الأوسط، ومثلما لم يفدها خنق فنزويلا التي كاد شعبها يلفظ أنفاسه جراء تضخم وصل آلاف في المائة والإطاحة بالنظام الكوبي المتفولذ، بما يؤشر على حدود قدرتها ، فهي ليست قدراً، والشعوب أسوة بالأفراد يمكن أن تحشر أحيانا في أوضاع يتساوى فيها الموت والحياة ، وقد عرفت شخصيا تجربتين في السجون حينها تصبح أكثر تمرداً وبسالة .
وسوف يكون للقلعه الصينية في قادم السنوات أصداء وتأثيرات على أرجاء العالم وان بدت حاليا حذره وغير هجومية اتصالا بمعطيات اللحظة وميزان القوى دون ان نقفز عن دورها في المصالحه الايرانيه السعوديه ودينامياتها ولكنها لن تتوقف عن توسيع دورها وحضورها ( لبناء مجتمع أفضل وأكثر عدلاً للإنسانية ) تشي بينغ، وهذه ليست جعجعات دون طحن وإنما تقوم على إمكانات متنوعة ( نحن قادرون ) مفردتين رددهما تشي بينع أثناء تطوافه بعربته على القطاعات العسكرية في ذكرى انتصارالثورة، وإنتاج قومي بلغ 26 تريليون دولار بما فاق لأول مرة الإنتاج القومي الأمريكي ( 22 تريليون ) هيرالد تريبيون علما أن الأمة الصينية ما قبل انتصار الثورة 1949 كانت مكونة من 99% من الفلاحين الأميين وأول جامعة فيها تأسست عام 1919 ...
وذهابا للتاريخ، فبعد توحيد الممالك الإغريقية اكتسحت اليونان أوروبا والشرق، وبعيد انحياز الإمبراطورية الرومانية للمسيحية توطدت سلطتها وإيديولوجيتها في أرجاء أوروبا والشرق لقرون، وبتكريس الدعوة الإسلامية في زمن عمر بن الخطاب تمددت الدولة ولغتها ومعتقداتها رغم النكسة التي أصابتها باغتيال علي بن أبي طالب وما يمثل وتقتيل عائلته ( أهل البيت – خالد محمد خالد ) .
وبتوحيد فرنسا (72 إمارة ومقاطعة ) تدشنت الثورة البرجوازية والدولة القومية وامتدت إلى أوروبا ( فتوحدت الدولة بألمانيا المكونة من 51 ولاية وكذا ايطاليا وفضاءات واسعة ...) وهذا حال الثورة الروسية 1917 التي قالت عبارة نظريه جديدة يمكن انتصار الثورة الاشتراكية في حلقة ضعيفة ( نصف برجوازية ونصف إقطاعية ، نصف مستعمرة ونصف مستعمرة ) لينين ، وهذا درس كبير استوحته العديد من الأمم والشعوب وبانتصار الثورة الإيرانية التي قادها المرشد الخميني إمتد تأثيرها في الإقليم وأكثر من ذلك ، إلى درجة انه لا يمكن معاينة إقليم الشرق الأوسط ان لم ينطلق التحليل من القوة الإقليمية الصاعدة وتقاطعاتها الجدية مع الصيرورة الصينية والخندق الروسي وكل القوى المناهضة للهيمنة والتبعية والمحوطة في الوطن العربي وعالم الجنوب ...