المأساة مستمرة في السودان، وينتظر نحو 45 مليون سوداني التخلص من حكم العسكر الديكتاتوريين الذين سطوا على موارد البلاد ومقدراتها لمصالحهم الخاصة، وتحقيق أحلامه بدولة يشارك فيها الجميع في تقرير مصيرهم بطريقة ديمقراطية.
وتسببت المعارك المستمرة منذ أسبوعين بين قيادة الجيش، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، بقيادة اللواء محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في نزوج أكثر من أربعة ملايين سوداني خارج السودان للبحث عن ملاذاً أمناً مؤقتًا في الدولة المجاورة.
وتتجسد المأساة بمقتل أكثر من 500 شخص حتى الآن، وآلاف الجرحى الذين أصيبوا في المعارك المستمرة في الأحياء السكينة، وبحسب بيانات منظمات الإغاثة الدولية والأمم المتحدة، تم إغلاق معظم مستشفيات العاصمة الخرطوم، وترك آلاف الأطباء والعاملين في القطاع الصحي وظائفهم، ولا توجد رعاية صحية وطبية. وهناك قلق ومخاوف من تفشي الأوبئة والأمراض المعدية على خلفية الأزمة الإنسانية، إضافة الى ارتفاع أسعار الوقود الشحيح أصلاً، وعدم توفر السلع والإمدادات الغذائية في السودان آخذة في النفاد.
وما يعانيه السودانيون خلال الطريق ونقاط التفتيش من قبل الجيش السوداني، وقوات التدخل السريع، التي تحاول السيطرة على البلاد، والميليشيات المحلية التي تجمع رسوم العبور. والمعاناة التي يتكبدها الفارين من القتال في طريقهم للوصول إلى الحدود المصرية يواجهون صعوبة في العبور حيث ينم السماح بالعبور للنساء والأطفال والرجال الذين تزيد أعمارهم عن 50 عاماً.
وفقا لما يتناقله السودانيين على وسائل الإعلام وعلى حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ان سعر التذكرة بعد ان كانت 115 دولار قفزت إلى أكثر من 400 دولار خلال أيام.
يعاني السودان أوضاع اقتصادية كارثية، ويجد معظم السودانيين صعوبة كبيرة في توفير لقمة عيشهم، ويعتمدوا على المساعدات من المنظمات الاغاثية الدولية التي بدأت بمغادرة السودان.
وعلى الرغم من التوصل لهدنة وتمديد وقف إطلاق النار لمدة 72 ساعة أخرى، أعتقد السودانيين أنها لتوفير المواد الغذائية، ومصلحة لهم وافساح المجال للمحادثات بين أطراف الصراع، وعدم الذهاب لحرب أهلية قد تهدد البلاد. لكن وفقاً لوسائل اعلام عالمية أن الغرض من الهدنة بشكل أساسي هو ضمان استمرار إنقاذ وترحيل رعايا الدول الأجنبية التي تتعاون وتتسابق في اخراج رعاياها بطرق ووسائل أمنة، أكثر مما هو مساعدة للسودانيين. كما تروج الدول والقوى الدولية والإقليمية التي لا ترى في السودان أكثر من مجرد لوحة لعبة استراتيجية للحفاظ على مصالحهم ونهب موارد السودان.
وكيف ستقتنع الأطراف الدولية وهي صاحبة مصلحة في الحفاظ على مصالحها مع البرهان ومع حميدتي، الذي يمتلك قوة كبيرة يصل عددها نحو مائة ألف مقاتل، وهو من قبيلة كبيرة ولم يعد يعتبر نفسه ذراع عسكري موالي للجيش بل شريك في الحكم، ويسيطر على طرق تهريب المخدرات والأسلحة وبعض مناجم الذهب واليورانيوم. والعلاقة بينه وبين "مجموعة فاغنر"، الروسية، وتأمين تدفق كميات كبيرة من الذهب (واليورانيوم) من السودان. إضافة إلى محاولات روسيا إقامة قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، وهو المشروع الذي واجه رفض دول أوروبية التي تقدم مساعدات مالية لقوات الدعم السريع مقابل قيامها بدور كبير في الحد من قوافل الهجرة عبر الصحراء بين ليبيا وتشاد والسودان.
منذ اندلاع الاشتباكات المسلحة بين طرفي الحكم في السودان، كانت إسرائيل السباقة في التعبير عن قلقها، والاتصال بطرفي الصراع والتي تربطهما علاقة كبيرة بها، المضحك والسخيف أن إسرائيل تريد استقرار وأمن السودان وعودة العمل على المسار الديمقراطي في السودان. وطالبت أطراف الصراع بالامتناع عن العنف والعودة إلى مسار المصالحة الداخلية، من أجل إنهاء عملية نقل السلطة بإجماع واسع.
يبدو أن إسرائيل تدرك أنه ليس من السهل جمع طرفي الصراع، وصعوبة عقد قمة بينهما. فهي تحافظ على العلاقة مع الجنرالين، وعرضت نفسها كمضيف ووسيط لمحادثات المصالحة بين الطرفين تدين بالفعل للبرهان بالتطبيع مع السودان، لكنها تعلمت بالفعل أنه من الأفضل لها أن ترقص في العرسين كما ذكر الصحافي تسفي برئيل في هأرتس.
ولم يعد بإمكان إسرائيل اقناع الإدارة الأمريكية الداعم الرئيسي لعملية التطبيع، وتنفيذ وعودها بشطب السودان من القائمة الأمريكية للدول الداعمة للإرهاب، ومساعدات مالية بنحو 700 مليون دولار، وإمكانية الحصول على قروض سخية منها.
ومن صندوق النقد الدولي والتعاون العسكري مع إسرائيل، أو حتى توفير الحماية لأي من الطرفين. فالإدارة الأمريكية في ظل صراعها مع روسيا قد تكون مع استمرار الصراع لمنع روسيا من إنشاء قاعدة بحرية في السودان، ومنع أي محاولة للصين من تحقيق إنجاز سياسي آخر بعد الوساطة الناجحة بين السعودية وإيران. في ظل تعدد اللاعبين الدوليين والاقليميين ومصالحهم المختلفة في السودان يؤجل الأمل في وقف المأساة والنزف المستمر في السودان.
وما يلقلق إسرائيل وعدد من الدول العربية، السعودية والامارات، ما تتناقله الاخبار أن قائد الجيش البرهان يقع تحت تأثير وسيطرة "الإخوان المسلمين"، الذين تم تعيين العديد منهم في مناصب مهمة في الحكومية وقيادة الجيش، وما تسميه إسرائيل، أن لا أحد يريد أن يرى السودان يعود ويسقط في أيدي عناصر إسلامية أو موالية لإيران.
ولهذا السبب وغيرها من الأسباب التي تؤجل تحقيق إسرائيل مصالحها في السودان، من الأهمية بمكان ومن وجهة نظر إسرائيل، وقف القتال وتهدئة الوضع في السودان. اعتقاداً منها أن العلاقات ستعود في اليوم التالي لانتهاء الصراع، وإعادة الروح في اتفاقية التطبيع في العام 2020.
لم تدرك الدول العربية الطريق والبحث عن مصالحها في ظل صراع القوى الدولية على السودان وادامة الصراع فيه، بل أن بعض الدول العربية عاجزة وبعضها فاعل في تأجيج الصراع والاصطفاف مع طرف على حساب طرف أخر، وفي قلب ذلك وبدل من التوصل لتهدئة طويلة واحتواء ووقف المأساة، وتوفير ممرات والسماح بإدخال الوفود والمواد الإغاثة بالوصول إلى البلاد وتوزيع السلع الأساسية وتوفير الأدوية والرعايا الصحية وعلى الملايين المحتاجين.
هناك غياب لأي حلول حقيقية أو اتفاق على أي شيء، وتم تغييب العملية السياسية المعطلة منذ الانقلاب العسكري، وتقاسم الحكم بين طرفي الصراع، وفي قلب ذلك ما يهم الأطراف العربية استبعاد بعض السودانيين "الإسلاميين"، وإطالة أمد المأساة السودانية، وبينما تقيم الدول العربية المنخرطة في الصراع شراكة مع إسرائيل، التي ترفض اتخاذ موقف ومع من تصطف، فهي تلعب على الحبلين، وكل ما يجري يؤسس لاستمرار الصراع وعدم استقرار السودان.