في وقت كتابة هذه السطور لا يزال النائب الأردني، عماد العدوان، معتقلاً في إسرائيل. في الأردن يتوقعون من إسرائيل ان تطلق سراحه قريباً، وان تنهي القضية قبل أن تتضخم الى حجوم كبرى. حسب القانون ومعيار العدالة ينبغي أن يقضي العدوان سنوات طويلة في السجن الإسرائيلي، لكن الدولتين ستكسبان أكثر إذا ما تخلّتا عن العقاب الخطير. هذه حالة خاصة من الواضح فيها للطرفين أن الاعتبار السياسي أفضل من استنفاد القانون.
اجتاز العدوان جسر اللنبي في سيارته، الأحد الماضي، وأُلقي القبض عليه مع إرسالية كبيرة جداً من السلاح والذخيرة الى الضفة. في الإرسالية كان قرابة مئتي مسدس جديد ونحو 20 بندقية من طراز ام 16 قصيرة السبطانة. في الحقائب التي أُخفيت في سيارته اكتشفت سلاسل ذهب أيضاً. ويساوي الذهب الكثير من المال، وهو معد للبيع حيث سيتم مقابله الحصول على أموال نقدية كثيرة. استغل العدوان حصانته المكتسبة كمنتخب من الجمهور، والتي تحميه من التفتيش في معابر الحدود. من المعقول أنه لم يعمل وحده، بل كان رسولاً لآخرين. في الماضي أعرب عن تأييد علني لـ "حماس"، وأثنى على ذراعها العسكري. يُحتمل أنه عمل فقط كي يكسب مالاً كثيراً، لكنه لن يكون مفاجئاً اذا تبين انه خلف العملية يختبئ عامل وطني أيضاً، مثلاً الذراع العسكري لـ "حماس"، او أحد ما في المعسكر الإيراني. تأييد عماد العدوان للفلسطينيين ليس سرياً، بل موقف علني. في التصريحات التي أطلقها في السنتين والنصف الأخيرتين منذ توليه عضوية البرلمان عبر عن تأييده للفصائل المسلحة وكفاحها ضد إسرائيل.
في اعتقاله تبين أنه من تحت أنف النظام الهاشمي يعمل تنظيم مسلح، نجح في أن يجنّد إلى صفوفه نائباً في البرلمان. وليس اي نائب بل ابن قبيلة بدوية مهمة. يكفي إلقاء نظرة الى خريطة القبائل في المملكة كي نفهم عمَّ يدور الحديث. تمتد قبيلة العدوان على اراض في عمق الأردن ولا سيما في منطقة الشونة الجنوبية ومدينة السلط ومحيطها. هذه مناطق قريبة من اراضي إسرائيل، وبخاصة من معابر الحدود. وبفضل هذا القرب، ومساهمة أبنائها في التراث القتالي في عصر الحروب، التصق بهم لقب "قبيلة القدس".
نشر شيوخ القبيلة، هذا الاسبوع، رسالة وجهت مباشرة الى عبدالله الثاني. وادعوا بأن ابنهم عماد لم يرتكب في إسرائيل جريمة قتل بدم بارد، بخلاف الحارس الإسرائيلي الذي قتل مواطنين أردنيين. الحارس ذاته أُطلق سراحه، قالوا للملك، وعليه فمن المتوقع من الإسرائيليين ان يطلقوا سراح المعتقل. وفي رسالتهم أعربوا عن تأييدهم لعملية التهريب. كلنا نفتخر بابننا وبأفعاله، كما كتبوا، "لا تفصل بين بيوت ابناء قبيلتنا وأراضينا المحتلة غير أمتار معدودة. عيوننا وقلوبنا ترنو إليها كل يوم".
هذا القرب الجغرافي لم يطرح صدفة. هكذا سعى ابناء القبيلة لتذكير الملك (وإسرائيل) بأنهم هم حراس الحدود. اذا أرادوا فسيمنحون صاحب السيادة السكينة والاستقرار. وإذا أرادوا سيجعلون أرضهم منطقة ساخنة. هذا تهديد قيل بكياسة. وقد وصفوا المهرب المعتقل بـ "الوطني الشجاع"، وموقفه من الفلسطينيين بـ "الجريء". وأثنوا عليه قائلين: "من هو قريب من النائب عماد العدوان يعرف جيداً الروح الوطنية والقومية التي يتمتع بها".
حساب قديم
انطلقت في الأردن، هذا الأسبوع، حملة جماهيرية عاصفة تطلب من الملك ان يبذل كل ما في وسعه كي يطلق سراحه. إعادته الى بلاده بالفعل ستمنح القصر إنجازاً عظيماً، وتعزز قوته في صفوف الجمهور ولدى قبيلة العدوان. بوسعها أن تقلص التوتر السائد بين إسرائيل والأردن على خلفية أحداث الحرم، وترمم قليلاً الثقة المتضررة بين بنيامين نتنياهو وعبدالله الثاني. بوسعها حتى أن تمنح الأردنيين التحقيق معه حتى النهاية والوصول الى مرسليه بنجاعة اكبر، وهي ستمحو، من ناحية الأردنيين، الحساب الذي نشأ في صيف 2017. في حينه استقبل نتنياهو الحارس بشرف المنتصرين، بعد أن اطلق الملك سراحه دون تحقيق ودون محاكمة. وكان ذاك الحدث تسبب بحرج عظيم للقصر وبنقد شديد له في صفوف الجمهور.
إن إعادة العدوان الى عناية الأردنيين ستجسد لمرسليه ومساعديهم بأن الدولتين تعاونتا ضدهم. أما إصرار إسرائيل على إبقائه بحوزتها وان كان سيحقق العدالة ويحاسب عماد العدوان ويعاقبه، لكنه سيخدم معارضي إسرائيل الكثيرين في المملكة. وسواء أعمل بدافع مالي ام قومي، فان هذا الإصرار سيجعله بطل الأمة، وسيوقظ محور المقاومة للتجند من أجله. بوسعه أن يعظم الضغينة السائدة بين عمان والقدس، ويمنح معارضي إسرائيل مبرراً لمهاجمة الملك دون توقف. وفوق كل ذلك من شأنه أن يخرق انضباط أبناء قبيلة العدوان على طول الحدود ويضع الإسرائيليين الذين يزورون الأردن في خطر.
العدوان ليس نائباً عادياً، بل واحد من أكثرهم صخباً. هو ابن 35، الأصغر من بين الـ 130 نائباً. محامٍ مختص في القانون الدولي. تنافس وانتخب مستقلاً، لكن بعد وقت قصير من دخوله البرلمان انضم بشكل واضح الى صفوف المعارضة. لم يتوقف عن مهاجمة الحكومة على سياستها العقيمة تجاه الجمهور، بخاصة في كل ما يتعلق بالخدمات المدنية: الصحة، العمل، والتعليم. في لحظة لا تنسى، في آب 2021، سد طريق رئيس الوزراء، بشر الخصاونة، حين جاء هذا الى بوابات البرلمان، احتجاجاً على ارتفاع أسعار الوقود. جلس في كرسي رئيس الوزراء الأردني، ورفض النهوض منه. "لن نسمح لك باتخاذ قرارات ظالمة ضد الشعب الأردني"، قال ورفض النهوض من مكانه.
ومن بين الصراخات التي وجهها للخصاونة المتفاجئ، قال عماد العدوان هذه الكلمات أيضاً: "الشعب هو مصدر الصلاحيات، وهنا مجلس الشعب". بمعنى أنه أراد ان يقول، بخلافك: للجالسين في هذه القاعة الحق في الكلمة الأخيرة، إذ نحن انتخبنا وأنت لم تُنتخب. اذا لم يكن الخصاونة منتخباً من الشعب، فصلاحياته على أي حال موضع شك، وان كان الشعب هو مصدر الصلاحيات، فما هو مكان القصر ومبعوثيه؟ باختصار، يقف نائب تحت قبة البرلمان ويشكك بصوته وصورته بأساسات النظام القائم. وجاء التهريب في جسر اللنبي وعلم القيادة الأردنية عما يجري الحديث. عماد العدوان ليس منتخباً عادياً. بالنسبة لهم هو شخصية تآمرية. واحد مثله في مصر، مثلاً، او في سورية كان سيختفي منذ زمن بعيد في ظروف غامضة، وفي عودته، اذا ما عاد، يقضي على نفسه بالصمت.
منذ اعتقاله بدأت محافل الأمن التحقيق، كل في مجاله. في إسرائيل سارعوا لفحص ما هو العنوان للارسالية الكبيرة (يمكن التخمين بأنه وجد الجواب)، وفي الأردن سعوا ليعرفوا من يقف خلف المؤامرة التي نسجت تحت أنفهم. التحقيق الهادئ، في الظل، الذي اتبع في القضية في العاصمتين، يدل على التفاهم المتبادل السائد بين الطرفين.
تفجرت هذه القضية في توقيت مشوق على نحو خاص. في السنة الأخيرة تضغط قيادة "حماس" على القصر للسماح لها بالعودة الى عمان بعد أن طردت منها بين ليلة وضحاها قبل 24 سنة. عودة "حماس" الى الأردن، هذه الأيام، خطر امني مباشر على إسرائيل. فهي ستمنحهم حرية الوصول الى الفلسطينيين في الضفة الغربية وشرقي القدس ممن يخرجون ويدخلون عبر جسر اللبني. وهكذا بوسعهم أن يعودوا بالتدريج الى موقف النفوذ على هؤلاء السكان تحت أنف النظام الأردني والسلطة الفلسطينية. الأردنيون، الذين يبحثون عن أسباب وجيهة لرفض طلب حماس" العودة الى بلادهم، قد يجدون في هذه القضية مشجباً يتعلقون به".
في عودة عماد العدوان إلى الأردن سيحصل على استقبال حار، لكن في غرف التحقيق سيكون وضعه مختلفاً تماماً. لقد كشف اعتقاله بأن المشرع والقانوني الشاب لا يعارض فقط النظام ويؤيد سفك الدماء بل هو أيضاً مهرب سلاح.
عن "معاريف"
معاريف : الجنود في غزة خائفون ويستهدفون كل ما يتحرك
29 يناير 2025