بين البطل الواحد والبطولة الوطنية

حجم الخط

بقلم رائد محمد الدبعي

 

ومضى الشهيد البطل الشيخ خضر عدنان من زنزانته المظلمة نحو الشمس، وترجل ليروي شقائق النعمان، ويحرس ظلال اللوز والزيتون، خطا حافرا اسمه في زوايا الذاكرة، ومصاطب الروح، ارتحل بعد حياة تزخر بكل معاني الفخر، يعلو صدره 288 وساما، هي عدد أيام إضرابه الفردي عن الطعام في معاركه الخمسة مع العنصريين وأعداء الشمس والخبز والحرية والأطفال، غادرنا الشيخ خضر غير اَبه بتوقعاتنا الشعبوية وثقتنا المفرطة بأن سيد النجاة سيجترح الحياة مرة خامسة، تماما كما فعل في المرات الأربعة الماضية، غادرنا الشيخ خضر دون أن يغفل عن الإشراف على كل تفاصيل رحلته الأخيرة، وصية تصلح إنجيلا للثوار، ورحيل هادىء في جوف الليل تماما كما يرحل القديسين، عرّج على الرملة لكي يصنع عودته المجازية حتى لو كان ثمنها حياته، لا يعرف أحد تفاصيل لحظاته الأخيرة، هل غفر لنا تقصيرنا، أم فكر بأطفاله وزوجته الصابرة، هل أوجعه الجوع أكثر، أم هزيمتنا الجماعية أمام أنفاسه الأخيرة في ظلام زنزانة تافهة يحرسها مستوطن عنصري لا يربطه بهذه الأرض سوى أساطير تلمودية وحقد لا ينتهي، أعاد الشيخ خضر سيرة التكوين، وعلا نحو المجد، معبرا عن تمسكه التراجيدي بالحياة عبر تفجره في وجهها، لينثر الحياة والسنابل والدروب الخضر لشعبه الفلسطيني، انطلق يحرضنا نحن الأحياء مجازا على الحب والثورة والمقاومة، وليحفر اسمه في ضمائر الأحرار وجدائل الصبايا، وتكبيرات المساجد، وترانيم الكنائس، وصلوات الجدات، وبنادق المناضلين .


يشكل الشيخ خضر عدنان، وغيره الاَلاَف من الطلائعيين والمناضلين الفلسطينيين والعرب الذين لا تكفي محدودية السطور نماذج مضيئة في سفر الثورة الفلسطينية، منهم الشيخ عز الدين القسام، وفرحان السعدي، وعبد القادر الحسيني، وياسر عرفات، وأجيال من الصادقين الذين قضوا في مسيرة النضال الفلسطيني، والذين يشكلون أعمدة الرواية الفلسطينية، بل أنهم في الكثير من الأحيان هم متن السردية وما تبقى هو الهامش، فيما تتميز الحركة الصهيونية أنها قامت على مجموعة من المؤسسات التي تخدم أيدولوجيتها العنصرية الإحلالية، المرتكزة إلى أساطير تلمودية وتوراتية، والقائمة على قاعدة تقوم على " أرض أكثر، وعرب أقل "، من خلال تأسيس عدد من المؤسسات التي تخدم أطماعها، لعل أهمها الصندوق التأسيسي، "كيرن هيسود" والصندوق القومي اليهودي "الكيرن كييمت" والوكالة اليهودية، التي تسعى إلى جمع الأموال والتبرعات من أثرياء اليهود بهدف إقتلاع الفلسطيني من أرضه، وتشجيع هجرة اليهود من مختلف أنحاء العالم إلى فلسطين، كما أن جرائم المستوطنين المنظمة ضد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس ترتكز إلى شبكة متنوعة من المؤسسات المالية، والمؤسسات الوظيفية، والمنظمات الإرهابية القاعدية، والمدارس الدينية العسكرية، والمنصات الرقمية القادرة على الحشد والتحريض والتجنيد، والتي من أبرزها مجلس ييشع، وشبيبة التلال، ونساء بالأخضر، وعصابات " بني عكيفا"، و " عزرا "، و " أرائيل"، وريغافيم، ونحالاه، وغيرها العشرات من المؤسسات التي تخدم استراتيجيات الحركة الصهيونية، إذ أن " " ديفيد بن غوريون " أول رئيس لوزاء إسرائيل، وأول من تولى منصب ما يسمى ب وزارة الدفاع وأحد أبرز قادة الحركة الصهونية وحزب العمل، وأحد أبرز زعماء الإستيطان الصهيوني في فلسطين، تقاعد عام 1970، وتفرغ لتأليف مذكراته ورؤيته لتاريخ إسرائيل، ودفن بهدوء في مستوطنة سديه بوكير في كلية بن غوريون، دون أن يدعي أحدا أن غيابه عن الساحة السياسية سيتسبب في كارثة قومية، أو إدخال النظام السياسي في نفق مظلم، كما أن إسرائيل نظمت خمسة انتخابات نيابية في أربعة أعوام، دون أن يتسبب ذلك في أزمة سياسية، أو توقف مؤسساتها الرسمية، سواء مؤسسات القضاء، أو الأمن، أو الخدمات العامة.


من واجبنا أن نقدس قيمة الشهادة، وأن نشيد بالشهداء والمناضلين، ومن حقهم علينا أن نبقي جذوة ذكراهم متقدة في عقول وذاكرة الأجيال، إلا أنه من غير العادل أن نحمّل مجموعة من الطلائعيين والأبطال مهام المجتمع بأسره، وواجبات الأمة جمعاء، فنحن جميعا دون استثناء، نرى بخضر عدنان، وبشبان عرين الأسود، وبكتيبة جنين، وغيرهم من حملة لواء المقاومة، تعبير عما يعترينا من مشاعر غضب، ورفض، ورغبة جامحة بالتمرد على الاحتلال والعنصرية والظلم، فيما لم يحفزنا ذلك الشعور سوى على المزيد من الارتكان، فأصدق القول ما قالته الأخت رندة موسى زوجة الشهيد خضر عدنان " كنا نقول أن الشيخ يموت ... لكن ولا حد صدّق، لن نقبل من يعزينا بالشيخ، نقول لكل الفصائل، لكل من خذل خضر في هذه المعركة، هنيئا لكم، عيشوا واهنئوا في بيوتكم، خزنوا أسلحتكم حتى تصدأ، من لم يرفع لنصرة خضر، لا نريده أن يكون ثأرا لخضر"، كلمات تختصر الوجع، وتوجز المعنى، وتقتضب كل المعاني، فلا خير في كل ما سمعناه من بكائيات على جسده الطاهر، ولا قيمة لكل عبارات التبجيل على جثمانه المسجى، كان بحاجة لكل ذلك وهو حي يصارع الجوع وحيدا في زنزانته المظلمة الباردة من أجل كرامتنا جميعنا، وشرفنا جميعا، وعزتنا جميعا، كما أنه ليس من الإنصاف أن نلقي بكل مهام التحرير على عشرات الشبان في البلدة القديمة في نابلس، أو في مخيم بلاطة، أو مخيم جنين، ونتكىء على ضعفنا، ودعواتنا لهم بالنصر والتمكين.


نحن بحاجة إلى مجتمع يقوم على المؤسسة، والعمل الجماعي، نريد نظاما سياسيا، وفصائل وحركات وأحزاب وقوى ووسائل إعلام وقادة رأي عام يرتكزون على المعلومات، والتقييم الدائم للأداء، واستجلاب العبر، ومراكمة الإنجاز، والعمل الجماعي، وعقلانية الأداء، وتصويب المسار، نحن بحاجة إلى مجتمع يتبنى ويمارس قيم المواطنة والمقاومة المثمرة، والعمل الجاد، ومحاربة الفساد، وإنهاء الإنقسام المخجل، ولا يكتفي بالإشادة بالأبطال عبر وسائل التواصل، ومن خلف المقاعد الوثيرة، حينها فقط يحق لنا أن نبكي الشيخ خضر كمواطنين صالحين، ونتلاوم من المقصر، ومن الأكثر التزاما بنهجه المقاوم، أما اليوم فكلنا في الهمّ شرق، وجميعنا مقصرون.