معاريف : حكومة نتنياهو ضعيفة، خائفة، ومنقطعة عن الواقع: قبل أن تدفع إسرائيل أثماناً باهظة

حجم الخط

بقلم: الون بن دافيد

 

 



كانت غزة، لا تزال، وعلى ما يبدو ستبقى الى الأبد، حجر الرحى، وحائط الواقع القاسي، الذي تتحطم عليه الوعود العليلة للسياسيين ممن أقسموا على تغيير الواقع في الجنوب. فقيرة، عنيدة، مارقة، لكن تلقن كل حكومة في إسرائيل درساً في قيود القوة.
رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، خريج غير قليل لمثل هذه الدروس، لكن الدرس هذه المرة أليم على نحو خاص. في غضون أربعة أشهر نجحت "حماس" في أن تكشف حكومة "اليمين المليء" بكامل ضعفها، وكذا حقيقة ان إسرائيل الممزقة مردوعة وتخاف مواجهة واسعة.
من المحظور الوقوع في الخطأ. "حماس" هي الأخرى غير معنية بمواجهة في غزة. في السنة الماضية وقفت "حماس" جانباً في الوقت الذي خرج فيه الجيش الإسرائيلي الى حملة إثر حملة في "يهودا" و"السامرة". وكذا عندما هاجمت إسرائيل "الجهاد الاسلامي" في حملة "بزوغ الفجر" امتنعت "حماس" عن الانضمام الى القتال.
لـ "حماس" أسباب وجيهة للامتناع عن مواجهة واسعة مع إسرائيل. بعد حملة "حارس الأسوار" فهم رئيس اركان "حماس"، محمد ضيف، بأن إسرائيل نجحت في أن تحرمه من معظم القدرات، حتى دون أن تنجر الى مناورة برية في القطاع. فالعائق تحت الأرض نجح حتى الآن في تحييد قدرات "حماس" للتسلل الى إسرائيل عبر نفق، والقوة البحرية لـ "حماس" تضررت، المرة تلو الأخرى، وصواريخها أيضاً حيدت في معظمها من قبل "القبة الحديدية"، ولم تنجح في إلحاق إصابة ذات مغزى في الجبهة الداخلية الإسرائيلية. وكان درس ضيف بأنه في المواجهة التالية مع إسرائيل هو ملزم بأن يصل مع عدد صواريخ أكبر من الـ 14 الفاً التي كانت له عند بداية "حارس الأسوار". ولم يصل الى ذلك حتى الآن.
لكن "حماس"، مثلما هو "حزب الله" وإيران أيضاً، يرون كيف تفكك هذه الحكومة أساسات القوة الإسرائيلية، وتمس بالسند الاستراتيجي الأميركي، وتصفي الوحدة الداخلية، وهذا يدفعهم جميعاً لأن يتجرأوا على طعننا، انطلاقاً من الفرضية بأن إسرائيل في وضعها الحالي ستمتنع عن رد يؤدي الى معركة واسعة. هم محقون: حكومة لا تعنى إلا بتشريع سيصفي جهاز القضاء وما تبقى من وحدة صف وطني ستجد صعوبة في ان تقود المجتمع الإسرائيلي المنقسم الى المعركة.
وعليه فخيراً فعل نتنياهو عندما اختار رداً مقنوناً في هذا الوقت، ولم يقدنا الى حملة اخرى عديمة الجدوى في غزة. يحتمل أننا لاحقاً سنجد الوقت والفرصة لنتخلص من زعيم آخر لـ "حماس"، في الفترة القريبة القادمة، لكن هذا ايضا لن يضمن الهدوء في الجنوب.
كما كان متوقعاً فإن عصبة المهرجين من "قوة يهودية" في الائتلاف انطلقت بالصراخ على الرد المحدود، لكن من المؤسف أن نرى أيضاً انضمام الكثيرين من زملائي إليهم مطالبين بـ "رد قاسٍ" أكثر. وكأنه فقط اذا ما أنزلنا على غزة عدة أطنان اخرى من القنابل فإن الواقع في الجنوب سيتغير.
مقابر القطاع مليئة بنتائج "الرد الإسرائيلي القاسي"، الذي لم ينجح في ان يحقق اي ردع، وأرض القطاع الرملية مليئة بالخراب الذي خلفته هناك سلسلة حملات عسكرية عديمة الانجازات الحقيقية. يعرف رئيس الوزراء نتنياهو هذا افضل من الجميع: تحت قيادته خرج الجيش الإسرائيلي الى ثلاث حملات عديمة الجدوى في القطاع، قتلت عشرات من أفضل ابنائه، ولم تنجح في أن تضمن الهدوء في الجنوب.

الساحات تتحد

غزة تحدّ أمني لإسرائيل، لكن مشاكلها الأساسية ليست عسكرية، ولا يمكن حلها بالقنابل والقذائف. قطاع إقليمي ضيق ومكتظ يحشر فيه 2.2 مليون نسمة مع نقص شديد في المياه، الطاقة، والعمل.
في السنتين الأخيرتين غيّر الجيش الإسرائيلي تماماً خططه العملياتية تجاه غزة، وأعد جملة متنوعة من الاعمال المركزة، بحجوم مختلفة، عرفت كيف تجبي ثمناً أليماً من "حماس"، دون الانجرار الى بقاء طويل على الارض وتعريض القوات لإصابات كثيرة. لكن في الجيش الإسرائيلي ايضا يعرفون بانه لا يمكن لاي خطوة عسكرية ان تغير الواقع الاساس في القطاع وتضمن هدوءاً طويلاً في الجنوب.
منذ سنين تتعاطى إسرائيل مع غزة كمشكلة تكتيكية، بمثابة مرض عضال يتفجر بين الحين والآخر، وتمتنع عن معالجة جذور المرض. يقضي هذا النهج على سكان الجنوب بالعيش بين جولة وجولة مع ظل دائم من التهديد ضدهم. لم تحاول اي حكومة في الـ 18 سنة الاخيرة ان تصوغ استراتيجية تسعى الى تغيير الواقع في غزة وفي الجنوب. والحكومة الحالية بالتأكيد غير قادرة على أن تجري مثل هذا البحث.
حتى وقت قريب كان ممكناً ادارة التوتر مع غزة بشكل منفصل عن ساحات اخرى. في الأشهر الأربعة الأخيرة تتوحد كل الساحات أمام إسرائيل، وتصبح غزة عرضاً من أعراض مشكلة أوسع بكثير. أمام الشرخ الداخلي وضعف قيادتنا ينبغي الافتراض بأن جولات النار التي شهدناها في الجنوب وفي الشمال ستتكرر، بل ستتعاظم.
لا يوجد أي جبهة من الجهات حولنا معني بمواجهة واسعة، لكنهم جميعهم يتجرؤون على أخذ مخاطر أكبر، ويرفعون احتمال التدهور الى معركة. الحكومة الحالية لا تزال غارقة في جدول أعمال منقطع تماماً عن الواقع الإقليمي. اذا لم تصحُ وتبدأ بالاهتمام بالتحديات الحقيقية التي نقف أمامها فان الواقع سيجبي منا أثمانا باهظة أكثر بكثير من تلك التي عرفناها في العقود الأخيرة.

عن "معاريف"