توجت المملكة البريطانية أمس ملكها الجديد تشارلز الثالث وريثاً لوالدته الملكة اليزابيث. وتم ذلك في مشهد أرادته أن يكون أسطورياً مكللاً بالتقاليد الأرستقراطية التي توارثتها ملكية من أعرق ملكيات أوروبا وأكثرها رسوخاً وحضوراً، وبمراسم موغلة في القدم أصبحت جزءًا من هوية الدولة.
لحسن حظ عائلة وندسور أن بريطانيا لم تنهزم في الحربين العالميتين اللتين حطمتا أوروبا، وكانت الهزائم سبباً بانتهاء ملكيات كانت تغطي مساحة في حكم القارة.
فقد تكفلت الحرب العالمية الأولى بنهاية العائلات، أسرة رومانوف في روسيا وعائلة عثمان في تركيا وعائلة هابسبورغ في النمسا وهوهنتسلرن في ألمانيا وكذلك في المجر، في حين انتهت الحرب العالمية الثانية بإزالة عائلة سافوي المالكة من إيطاليا. لكن في بريطانيا كانت العائلة على الدوام في صف المنتصرين فلم تهتز لتظل حتى وقتنا الراهن أقوى الملكيات القائمة.
سبعة عقود مرت منذ تتويج آخر ملوك بريطانيا ما جعل من المناسبة طقساً نادراً، ربما لم تسعف الأقدار أن يشهده الكثيرون في العالم. ولكن بين تتويج الملك تشارلز ووالدته كان عالم جديد يولد، فقد جرت مياه كثيرة في أنهار البشرية ودماء هائلة في عروقها حيث تسلمت الملكة آنذاك مملكة تسيطر على نصف الكرة الأرضية وإن كانت تستعد لتسليم مفاتيحها لقوة عظمى آخذة بالشروق غرب المحيط، سبعة عقود كانت كفيلة بعالم لا يشبه ذلك العالم القديم، حيث تقلص التاج وتغيرت الموازين وأصبحت بريطانيا أقل انتشاراً.
بريطانيا في عهد ملكها الجديد تغيرت في الكثير من النواحي، وهو الذي بدا مبكراً أنه أكثر قدرة على فهم تلك التغيرات بل ربما أن الملك وريث التقاليد البريطانية وحارسها كما تم تتويجه قد أظهر مبكراً انفتاحاً لافتاً على الثقافات والأديان الأخرى.
فقد أحدث قبل ثلاثة عقود عاصفة في بريطانيا عندما اعتبر أن وظيفة الملك هي «حامي الأديان» وليس «حامياً للدين» رغم أن لرأس التاج مكانة دينية كرئيس لكنيسة كانتربري كنيسة بريطانيا الأنجليكانية.
ورغم موقعه الديني فقد أظهر ما هو أبعد من التسامح مع الديانات الأخرى وخاصة الإسلام، وأظهر جرأة غير معهودة قياساً بالشخصيات الأوروبية التي تعاطت مع الإسلاموفوبيا حين تحدث في الأزهر بالقاهرة قبل سبعة عشر عاماً قائلاً: «نحن في الغرب ندين لعلماء الإسلام لأن كنوز العالم الأوروبي الكلاسيكي ظلت محفوظة لديهم في العصور المظلمة»، ويقدم رؤية أكثر تسامحاً حين يقول: «ما يجمع عالمينا أقوى مما يفرقنا مسلمين ومسيحيين ويهوداً». وتلك هي الرؤية الحداثية للملك التي يتحدث عنها المراقبون.
ومن بريطانيا التي وقف زعيمها التاريخي ونستون تشرشل يقرأ آيات الكتاب المقدس في طقس تتويج الملكة الأم إلى خليفته الهندي الأصل اليوم كل ما يمكن أن يلخص كل التغيرات التي مرت بها بريطانيا، حيث يترأس مسلم حكومة أسكتلندا ويترأس هندوسي الحكومة في قلب الإمبراطورية وعاصمتها التاريخية لندن، هذه التغيرات هي انعكاس جوهري للتغيرات الدينية والثقافية والديمغرافية للمجتمع البريطاني، فقد أصبح أكثر تنوعاً وأكثر تعدداً في حالة تصالح تغيب فيها الاعتبارات القومية والإثنية والدينية، وأصبح مجتمعاً أكثر علمانياً، إذ يعرف فقط 46 % من البريطانيين أنفسهم كمسيحيين فيما أن 37 % يعرفون أنفسهم بلا دين و6% يعرفون أنفسهم كمسلمين بينما يعرف حوالى 3% أنفسهم بأنهم سيخ وهندوس.
في كتابه «تشارلز في السبعين: أفكار وآمال وأحلام» الذي صدر قبل خمس سنوات كشف الكاتب روبرت جونسون كثيراً من مواقف الأمير الذي أصبح ملكاً؟، وكثير منها تعارض مع مواقف الدولة البريطانية وخاصة حرب العراق مستغرباً من عدم التفاهم مع قادة الدول العربية وساخراً من المحاولات التي وصفها بالعبثية لفرض الديمقراطية في بلاد قبلية. وكشف الكاتب أن الأمير كان قد وصف توني بلير بـ»كلب بوش».
وما جاء في الكتاب ربما ينذر بتحسين العلاقة مع العالم العربي حيث قال مؤلف الكتاب إن «تشارلز مصمم على استخدام علاقاته الشخصية مع القادة العرب في الخليج من أجل الصالح العام».
فلسطين تحمل على أكتافها وطأة تاريخ دامٍ صنعته بريطانيا ووزير خارجيتها بلفور ما زالت تشعر بأسى من تاريخ المملكة الذي تم مسح الملك بزيتها المقدس من أرض المسيح.
وكانت قد استقبلت الملك تشارلز وولي عهده الذي آثر والده أن يتجنب أول زيارة ملكية لإسرائيل أحجمت عنها الملكة الأم تماماً. كان الملك قد أظهر تعاطفاً مع الفلسطينيين بقوله إن «المعاناة الفلسطينية تكسر قلبي» ربما يعطي هذا قدراً من التفاؤل للفلسطينيين بالملك القادم رغم حياده السياسي ما يجعل من التوقعات شديدة الانخفاض لكنها مواقف على الأقل تسهم في تعزيز الرواية حين تصدر من الملك والأمير وليام الذي أبدى تعاطفاً أبعد من والده كعائلة مؤثرة في الرأي العام البريطاني، ويتساوق هذا مع تغيرات في المجتمع البريطاني حيث تتراجع مكانة إسرائيل وتتقدم أكثر مكانة الفلسطينيين ويزداد التعاطف معهم حتى بين يهود بريطانيا أنفسهم.
كيف يمكن أن ينتهز الفلسطينيون وجود ملك أكثر تفهماً لمعاناتهم وهو الذي اعتبر أن «القضاء على الإرهاب لا يتم إلا من خلال حل القضية الفلسطينية» ؟ كيف يمكن أن يستفاد من الملكية العريقة والمحايدة ولكنها المؤثرة بما تملكه من قوة ناعمة لصالح القضية الفلسطينية ؟
هذا سؤال ينضم لعشرات الأسئلة المفتوحة التي لم تعد تجد جواباً وسط حالة التراخي الفلسطينية القائمة التي لم تنجح في مادة الاستثمار السياسي حتى اللحظة.