عشرية سوداء...!!

izhM5.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

نشر محمد سعيد القشاط، سفير جماهيرية القذافي في الرياض، كتاب مذكرات، يُقرأ في جلسة واحدة، بعنوان "القذافي، وأنا، وبن علي" في القاهرة 2016.
الكتاب كعادة ما لا يحصى من المنشورات في العالم العربي، يفتقر إلى البنية الموحّدة، والتحليل، والإشارات المرجعية، ويمكن حشره في باب "أدب السيرة". ومع ذلك، أعتقد أنه يستمد أهميته بقدر ما يُلقي من الضوء على اهتمامات القذافي، في الأسابيع القليلة التي أعقبت اندلاع الثورة التونسية، وسبقت اندلاع الثورة الليبية، وعلى العلاقات العربية ـ العربية.
في اهتمامات وهموم القذافي، في الفترة التي أعقبت هروب بن علي من تونس (14 كانون الثاني 2011)، كما تجلّت في الكتاب، ما يمثل شهادة شخصية، وإضافة فائقة الأهمية إلى أدبيات فقيرة حول الثورة المضادة في العالم العربي، منذ اندلاع الموجة المباركة الأولى للربيع العربي وحتى يوم الناس هذا.
فلننظر، بداية، إلى ما جاء في الكتاب. يقول القشاط إن بن علي اتصل بالسفارة الليبية في جدة، بعد وصوله لاجئاً بأيام قليلة، طالباً أرقام السفير، وأنه تحاشى الحديث معه، فقد أراد الحصول على تعليمات القذافي، في هذا الشأن. وكانت المفاجأة أن القذافي طلب منه السفر من طرابلس إلى جدة في الحال، وإبلاغ بن علي بالوقوف إلى جانبه، والعمل على إعادته إلى سدة الحكم، سواء عن طريق الانقلاب العسكري، أو اللجان الثورية التونسية (كان يعتقد أن لجانه الثورية في كل مكان، وأنها رهن إشارته).
تكررت لقاءات القشاط ببن علي في جدة، وقد أرسل لبن علي مائتين وخمسين ألف دولار، كمساعدة عاجلة (بعدما شكا المذكور ضيق الحال) وتدارس معه، عن طريق السفير القشاط، احتمال الانقلاب العسكري، وضرورة الاتصال بالجنرال رشيد بن عمّار، الذي كان قائداً للجيش في تونس، كما تداول سيناريو إثارة الشغب (نزول البلطجية إلى الشوارع) لإرغام الجيش على التدخل، لاستعادة الأمن، وإعادة بن علي.
ولا ضرورة لكل ما تبقى من تفاصيل، بطبيعة الحال. فنحن نعلم أن الانقلاب لم يقع، وأن ثورة قد أطاحت بالقذافي بعد قليل. المهم الاحتفاظ في الذهن بحقيقة أن محاولة القذافي قد تكررت من جانب آخرين في كل مكان آخر في أوائل العام 2011، فهذا يريد حماية صاحبه، وذاك يخفي خنجراً وراء ظهره، تماماً، كما في المسلسلات، وأفلام الكرتون. ومن سوء حظ القذافي نفسه، أن الذين أردوا التخلّص منه كانوا أكثر من المدافعين عنه، في الإقليم والعالم، وأن "لجانه الثورية" كانت مجرّد وهم.
ومع كل هذا في الذهن، فلنتخيّل حجم الاتصالات والرهانات والمساومات من جانب قوى محلية وإقليمية ودولية، في كل عاصمة اندلعت فيها الموجة الأولى للربيع العربي. ويكفي، في هذا الشأن، الوصول إلى خلاصة مباشرة من نوع: ما حدث من تحوّلات في البلدان التي ضربتها موجة الربيع العربي لم يكن ترجمة خالصة ومستقلة لموازين قوى محلية، بل كان ما نجم عن تضافر وتفاعل تلك القوى. واستناداً إلى فرضية أن تلك القوى لم تكن موحدة، وتبنت استراتيجيات مختلفة، ومتنافرة في الغالب، نفسّر ما تجلى من صراعات، وما وقع من كوارث منذ العام 2011.
أكتبُ هذا وفي الذهن ما يحدث الآن. فقد عادت موشحات التضامن العربي، مع "عودة" سورية إلى الجامعة العربية، إلى نشرات الأخبار. وككل شيء آخر في عالم العرب، فليس ثمة ما هو أبعد عن الحقيقة من شيء كهذا. على أي حال، لن يتمكن أحد من مقاربة الحقيقة دون وضع "العودة" في إطار صورة بانورامية أكبر، ودون التعامل مع "الموشّحات" بوصفها سردية مُضللة لإقناع الناس بصورة انتقائية للواقع، فيها من رهانات السياسة والقوّة، وآليات وتقنيات الخداع، أكثر مما تدرك الغالبية العظمى من الناس.
باختصار، تندرج العودة في سياق محاولة لإعادة التموضع، وتقليل الخسائر، من جانب قوى في الإقليم تصرّفت، على مدار ما يزيد على عقد من الزمن، على طريقة الفيل في دكّان الخزف، ولكنها مُنيت بالفشل، وتكبّدت خسائر فادحة، وفي الأثناء فككت وأهلكت كل مكان تدخّلت فيه. وفي سياق كهذا، دون غيره، تتجلى الدلالات السياسية لإعادة التموضع، سواء في سورية، أو حرب اليمن، أو العلاقة مع الإيرانيين.
أُنفِقت المليارات على مشروع الثورة المضادة لصد موجة الربيع العربي. كانت الثورة المضادة، وما زالت، نوعاً من حرب الأرض المحروقة. ولا نحتاج إلى أكثر من نشرة الأخبار المسائية، على شاشة التلفزيون، لنرى مشاهد الصراع الدامي بين وكيلين محليين على السلطة في السودان. وقد جاء كلاهما إلى سدة الحكم في سياق ترتيبات واتصالات وتوازنات تفاعلت فيها، وتضافرت، أطراف محلية وإقليمية ودولية.
مهما يكن من أمر، يصف الجزائريون الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد في عقد السبعينيات من القرن الماضي بالعشرية السوداء، والصحيح أن حروب الثورة المضادة، منذ اندلاع الموجة الأولى للربيع العربي وحتى يوم الناس هذا، تبدو أشد سواداً وقسوة من عشرية الجزائريين.
والصحيح، أيضاً وأيضاً، أن لا علاقة لطرد نظام آل الأسد من الجامعة العربية، أو إعادته إليها، بالتضامن العربي. كل ما في الأمر أن ثمة محاولة لإعادة التموضع، أملاها فشل الإبراهيميين على جبهات مختلفة على امتداد عشرية لم تنتهِ بعد، وتبدو أشد سواداً من جناح الغراب.