على غير ما تعوّدت عليه إسرائيل، خلال كلّ الجولات العدوانية التي شنّتها على قطاع غزة، حيث إنها تستجدي ردّ المقاومة، بعد ارتكابها جريمة اغتيال ثلاثة من قادة «سرايا القدس»، وسقوط ثلاثة عشر شهيداً آخر، تسعة منهم أطفال ونساء.
بعد «مجزرة فجر الثلاثاء»، صمتت المقاومة، وتوقّف ردّها على تهديد بتدفيع الثمن، وإظهار الصبر، وتماسك الموقف انضباطاً لقرار «الغرفة المشتركة».
في مساء الثلاثاء (أول من أمس)، قصفت إسرائيل مجموعة تقول: إنها كانت مستعدّة لإطلاق قذائف على أهدافٍ في المحيط. وكرّرت الفعل ذاته صباح الأربعاء (أمس)، بقصفٍ لمجموعة، وآخر لمواقع أخرى.
العقل المحايد، لا يُصدّق الادعاء الإسرائيلي، فالمجموعات المسلّحة، منضبطة، ولا يظهر منها في العلن أيّ تحرّك، يبرّر القصف. إذاً فهي، أي إسرائيل، تضيق ذرعاً بالردّ الصامت من قبل فصائل المقاومة، لأنّ هذا الصمت والغموض مدفوع الثمن غالياً، من قبل كل ما يتحرّك ولا يتحرّك في إسرائيل.
بعد ساعاتٍ قليلة من جريمة الاغتيال، خرج بنيامين نتنياهو وعصابته برفقة وسائل الإعلام، يُعلن الانتصار، ويتبجّح بأنّ إسرائيل أنجزت عملاً عظيماً، وأنها استعادت الردع، وأطلق المزيد من التهديدات بأنّ دولته قادرة ومستعدّة لخوض حربٍ في مواجهة العديد من الجبهات في الوقت ذاته.
غير أن هذا التبجُّح سرعان ما تحوّل إلى حالةٍ من القلق والخوف والارتباك الشديد، طال المجتمع الاستيطاني بأسره، وسيطر على المشهد الإسرائيلي برمّته قلق نفسي مَرضي.
إسرائيل لا تعرف سبباً لصمت المقاومة، فمرّة يقولون: إن سببه ضرب التسلسل الهرمي في حركة الجهاد، ومرّة أخرى، يفسّرون ذلك بخلافٍ بين حركتَي «الجهاد» و»حماس»، ومرّات أخرى، بأنّ الأمر ينتظر تنسيق الردّ مع ساحاتٍ أخرى داخل وخارج فلسطين المحتلّة.
لا تعرف إسرائيل، من أين ومتى وكيف سيكون الردّ الذي تصرّ عليه فصائل المقاومة، ولذلك فإنها مضطرّة لإعلان الاستنفار الكامل في الضفة الغربية وغزة، والداخل، وفي الشمال، حتى لو أدّى ذلك إلى استمرار حالة الشلل في إسرائيل كلّها.
على الوضع في إسرائيل ينطبق المثل القائل: «إن العصفور يتغلّى والصيّاد يتقلّى»، فلقد اضطرّت إلى تهجير سبعة آلاف مستوطن من «غلاف غزة»، وآخرين من ساحل عسقلان، وشلّت حركة القطارات والسيارات في «غلاف غزة»، وحوّلت مسار الطائرات المدنية المتّجهة إلى مطار اللد.
بالتأكيد لكلّ ذلك تكاليف باهظة وانعكاسات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي، وعلى العمل، حيث سيظلّ كل إسرائيلي قريب من الملاجئ.
بعض المدن والمستوطنات تحوّلت إلى مدن أشباح، عرف من خلالها الإسرائيليون معنى الحواجز الإسمنتية، والحواجز العسكرية.
هذا الوضع جعل مصادر عسكرية رفيعة في إسرائيل لا ترى العلاج لهذا الوضع، إلّا من خلال مواصلة العدوان، وجرّ المقاومة للردّ، لكن المقاومة تعمل بإستراتيجية جديدة، عنوانها «إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب».
السكوت الفلسطيني، هو بداية الردّ، وجزء أصيل منه، وقد اتّضح بما لا يدع مجالاً للشكّ أن هذا الصمت والغموض، قد أخذ يستنزف منظومة الادعاء بالنصر، ويحوّله إلى حالة من الضعف والخوف.
راهنت إسرائيل منذ البداية، على أن تهرب بجريمتها عَبر تفعيل الوسطاء لتحييد فصائل المقاومة الأخرى، وترك حركة الجهاد لوحدها، لو حصل ذلك فإنه قد يفتح على جولة قصيرة، يتأكّد بنتيجتها الانتصار، وتؤدّي إلى استنزاف الردّ الفلسطيني في حال بما يحرّرها في التصرف خلال «مسيرة الأعلام» يوم الثامن عشر من الجاري، بكلّ ما يُصاحب ذلك من استفزازات صعبة للفلسطينيين.
تعرف إسرائيل أن الردّ الفلسطيني قادم، وأنها لن تنجح في تغيير قواعد اللعبة، بل إن المقاومة هي التي تفرض القواعد، وهي لن تسمح لإسرائيل باستعادة قدرتها على الردع، أو أنها من يقرّر البداية والنهاية.
الغريب في المشهد، أن البعض لا يجد طريقة للتهرُّب من واجب إدانة العدوان الإسرائيلي والضغط على حكومة نتنياهو، إلّا من خلال المطالبة بالتهدئة، أو ضبط النفس.
المشكلة بالنسبة لهؤلاء أن الفلسطينيين هادئون، وأنهم يضبطون أنفسهم، وأنهم لم يُطلقوا النار حتى الآن حتى يطالبهم هؤلاء بوقف إطلاق النار.
غير أنّ هؤلاء، مرّة أخرى، يواصلون سياساتهم، بأنّ إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، ويتجاهلون حقّ الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم.
لا يزال الموقف الأميركي هو سيّد هذه السياسة، التي لا يقلّل من انحيازها لإسرائيل إعلان الأسف عن سقوط مدنيين.
المجتمع الدولي المنحاز والعاجز عن ردع إسرائيل، عليه أن يقرأ الواقع كما هو، والواقع يقول: إن جريمة اغتيال ثلاثة من قيادات «سرايا القدس» ليس جريمةً منفردة أو معزولة، وإنّما جزء أصيل من سياسة إسرائيلية معتمدة وثابتة.
خلال يوم ارتكاب الجريمة في غزة، أي في فجر أول من أمس، كانت القوات الإسرائيلية تقتحم مدن نابلس والخليل وأريحا. وفي اليوم التالي اقتحمت المزيد من المدن الأخرى، وسقط المزيد من الشهداء والجرحى.
لا بدّ أن يُدرك هؤلاء أنّ إسرائيل تشنّ حرباً مستمرة، بشعة على الشعب الفلسطيني، بعد أن جرفت حقوقه السياسية التي تقرّرها الأمم المتحدة.
ستنتهي هذه الجولة اليوم أو غداً، ولكن ماذا بعد؟ هل ستتوقّف إسرائيل عن مواصلة سياساتها العنصرية الفاشية بحقّ الفلسطينيين، أم أنها ستواصل لتحقيق أهدافها في حسم الصراع في الضفة والقدس؟
الدنيا تبدّلت في العالم، وفي المحيط الإقليمي والمحيط القريب من فلسطين المحتلة، وتتبدّل على صعيد قدرات الشعب الفلسطيني على التحدّي ومقاومة الاحتلال، هذا ما ينبغي إدراكه من قبل إسرائيل وحلفائها الدوليين والإقليميين.
ينبغي لكلّ هؤلاء أن يُدرِكوا أن إسرائيل اليوم، التي تعاني من أزمةٍ عميقة، تهدّد وجودها، كما يقول إسرائيليون كُثر، لم تعد إسرائيل الأمس، ولا الشعب الفلسطيني اليوم يفتقر للقدرة على المواجهة.
قبل أن يُعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية وبجانبه وزير جيشه يوآف غالانت، ورئيس هيئة أركانه هرتسي هليفي، قبل أن يُعلنوا الانتصار بعد ارتكاب الجريمة، كان نتنياهو، قد طلب تدخُّل مصر، للضغط من أجل تحييد حركة «حماس»، أو منع المقاومة من الردّ، كما طلب من «اليونيفيل» في جنوب لبنان منع إطلاق الصواريخ، الأمر الذي يشير إلى مدى الخوف الذي يستبدّ بهؤلاء.
إسرائيل تركع أمام مقاومة غزة والضفة، فكيف لها أن تكون في حال انخرطت جبهات أخرى؟ وكيف لها أن تُراهن على انتصارها في حربٍ تنخرط فيها جبهات متعدّدة؟
أُنهي هذا المقال بينما المدفعية الإسرائيلية تواصل القصف، في محاولة لجرّ المقاومة للردّ، بأمل إنهاء هذه الأزمة التي تستنزفها.