الدور الإقليمي الجديد والمتجدّد لتركيا!

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 

إذا جاز لنا اعتبار الدور الإقليمي هو ذلك الدور الذي تنطوي عليه مجمل العلاقات، القدرات والآليات التي تتمتّع بها دولة معينة في  التأثير - بصرف النظر عن أشكال هذا التأثير - في محيطها، وفي محيطها الحيوي على وجه الدقّة والتحديد، وبقدر ما يتعلق الأمر بمستوى ومجال هذا التأثير، فإن الدور الإقليمي لا يشمل، ولا يتضمّن الضمّ أو السيطرة المباشرة، كالاحتلال مثلاً، وهو (أي الدور الإقليمي) في كل الأحوال ومطلقها يتحدّد في كلّ الظروف بنمطٍ معيّن، أو طبيعةٍ محدّدة من شبكةٍ متداخلة من العلاقات بين كيانات سياسية لها درجة معيّنة من الإطار القانوني الذي ينظّم هذه العلاقات.
إيراد هذه المقدّمة بالذّات لدى معالجة الدور الإقليمي لتركيا أراه ضرورياً لتبديد الخلط والالتباس بين احتلال تركيا للشطر «التركي» من قبرص - وهو احتلال سابق على المرحلة التي نتحدث فيها عن الدور الحالي لتركيا في منطقة الإقليم - وذلك لأن هذا الاحتلال كان وما زال محكوماً بالخصومة، أو العداوة التاريخية مع اليونان، كما أنه يختلف عن تأثير الدور الإقليمي، لأن «الادّعاءات» التركية حياله تتركّز على البعد الإثني/ العرقي تحديداً.
معروف أن تركيا هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تشارك بعضوية حلف «الناتو»، وهي الدولة الإسلامية التي تشاركت مع إيران في عهد محمد رضا شاه بهلوي «الشاه»، وما بعد الانقلاب الأميركي على حكومة محمد مصدّق الوطنية بطهران في دعم إسرائيل، واللتين شاركتا معاً في الانخراط الكامل بالإستراتيجية الغربية، بما في ذلك دعم المشروع الصهيوني ودولته مبكراً، التي قامت على أنقاض شعبنا، وكرّست فصل مصر عن بلاد الشام، وتبادلتا الأدوار في نهش جسم الأمّة العربية، واقتطاع مساحات واسعة منه في الإسكندرونة والأحواز على حساب كل من سورية والعراق.
وبهذا المعنى بالذات، فإن الحديث عن الدور الإقليمي لتركيا أو إيران هو حديث يتعلّق أساساً بالدور الخاص لكل منهما بعد أن وصل «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في تركيا، وبعد وصول الخمينية السياسية إلى السلطة في إيران، وبعد «التحرّر» النسبي للدور التركي الخاص منذ عهد «العدالة والتنمية»، والدور الإيراني منذ عهد «الثورة الإسلامية» في إيران عن الانخراط التام في الإستراتيجية الأميركية بكل تفاصيلها.
اختار حزب «العدالة والتنمية» في المراحل الأولى من تولّيه السلطة في تركيا إستراتيجية التمدُّد «الناعم» في الإقليم العربي، واستطاع وزير الخارجية آنذاك البروفسور أحمد جاويش أوغلو كمنظّر لإستراتيجية الحزب أن يحقّق نتائج سياسية مبهرة، بعد أن حقّقت الدولة التركية نجاحات اقتصادية كبيرة، أخرجت البلاد من شبح المديونيات والتضخّم المنفلت آنذاك، واجتاحت الصناعات التركية الأسواق الإقليمية كلّها، ووصلت إلى الأسواق العالمية، وتمّ الانفتاح على دول الإقليم كلّها.. وصلت في مرحلة معيّنة إلى اتفاقات كبيرة للتعاون المتعدّد الأوجه والانخراط مع سورية نفسها.
كانت عين «العدالة والتنمية» على اتفاقات مماثلة مع مصر، إلّا أن نظام حسني مبارك في ذلك الوقت كان متحفّظاً على مثل هذا الانفتاح، لكنّ العين الحقيقية لتركيا في ذلك الوقت كانت على الاتحاد الأوروبي، وكان «العدالة والتنمية» يرى في دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي «القفزة» الإستراتيجية الأكبر في تاريخها الحديث، لأنّ من شأن مثل هذا الدخول أن يعيد هيكلة الاقتصاد التركي بما ينقله إلى مستويات نوعية جديدة، إضافةً إلى «التفوّق» على خصمها التاريخي في اليونان، وفي قبرص اليونانية «معاً»، ويعيد دور تركيا الحيوي والخاص في حلف شمال الأطلسي، ما يعزّز من دورها الإقليمي بالضرورة.
في عهد الرئيس عبد الله غُل وعندما كان رجب طيّب أردوغان رئيساً للوزراء بدت تركيا وكأنّها الدولة الصاعدة واللامعة، وبدت كأنّها الدولة التي «ستكون» «شرقية» في «الغرب»، و»غربية» في «الشرق»، وكانت تحمل بعض سمات القفزة الماليزية، والأقرب إلى نموذجها.
وإذا استثنينا بعض جماعات «الإخوان المسلمين»، أو معظم هذه الجماعات، فإن أحداً لم يصدّق في الوطن العربي كلّه، ولا حتى في العالم أنّ «الانتقال» من هذه الطبيعة والمسار للدور الإقليمي السلس إلى الموقف «الشرس» للدولة التركية من الصراع في سورية، وعليها - حسب تعبير «باتريك سيل» - وإلى معاداة الدولة المصرية، وإلى تبنّي «المشروع الإخواني»، بكل ما كان ينطوي عليه من أخطارٍ وتهديد للدولة الوطنية في الإقليم العربي، خصوصاً بعد إعادة تركيز السلطة في يد الرئيس أردوغان، فإنّ أحداً لم يصدّق، ولن يصدّق أبداً أن هذا الانتقال قد جاء كردّة فعلٍ على أيّ أحد، أو على أيّ حدث أو واقعة، بقدر ما يمثّل هذا الانتقال انقلاباً على «العدالة والتنمية» بنسخته الأولى، و»انتصاراً» لـ»جماعة الإخوان»، وطمعاً في الدخول إلى منطقة الإقليم من بوّابة الإطاحة بالدولة الوطنية، في الإقليم العربي بالتعاون مع «الغرب» الذي كان مستعداً لتسليم مفاتيح هذا القسم من الإقليم لـ»جماعة الإخوان»، ولم تكن التسهيلات التي حصلت عليها جماعتا «داعش» و»النصرة».. وغيرها في سورية وليبيا، وبصورةٍ غير مباشرة في مصر عَبر الجماعات الإرهابية في سيناء.. لم تكن سوى التعبير الحقيقي والانعكاس المباشر لهذا الانقلاب.
وبدأ هذا الانقلاب يُعبّر عن نفسه بصورةٍ أكبر وأخطر بعد أن عقدت تركيا تحالفاً «إستراتيجياً» مع قطر ضد بلدان الخليج العربية، والذين كانوا قد وصلوا إلى «قناعات» نهائية بأن «الغرب» مستعدّ «لبيعهم» بـ»المزاد العلني» لإعادة «إنشاء» الدول بعد اندلاع موجات «الربيع العربي» بفترةٍ وجيزة، وبعدما ركبت «جماعات الإخوان» هذه الموجات في كلّ من: ليبيا، سورية، مصر وتونس، وبعد أن كانت «جماعة الإخوان» قد قامت بانقلابها الأسود على الشرعية الفلسطينية.
صحيح أنّ ما خفي وراء هذا الانقلاب في طبيعة الدور الإقليمي التركي كان الغاز، والنفط، والشحّ الشديد لمصادر الطاقة في تركيا، وصحيح أنّ انبعاث «العثمانية الجديدة» قد راود الرئيس أردوغان، وما زال، وصحيح أنّ الوصول إلى إستراتيجية جديدة كهذه كان «يتطلّب» التفاهم مع «الغرب».. إلّا أنّ الصحيح، أيضاً، هو أنّ هذه الإستراتيجية الجديدة كانت تُحتّم عليه «تصفية» نفوذ المعارضة «الخطرة» التي تمثّلت في فتح الله غولن، وعلى إزاحة المعارضة التي تمثّلت بأوغلو، والرئيس عبد الله غُل نفسه، وهذا ما كان وما حصل.
لكن المؤكد أن فشل «المشروع الإخواني» كان السبب الأوّل في تراجع الدور الشرس لتركيا في منطقة الإقليم، كما أن اندلاع الحرب في أوكرانيا كان «يتطلّب» التصالح مع روسيا الذي كانت هي بدورها تحتاج مثل هذا التصالح بحكم «دكتاتورية» الجغرافيا بعد سيل العقوبات «الغربية» ضدّها.
وهنا تراجع «الغطاء» الأيديولوجي أو الغلاف الأيديولوجي للدور التركي في منطقة الإقليم، وحصلت الاستدارة التركية الكبيرة في ضوء أن «الغرب» نفسه يحتاج لتركيا، والشرق كلّه يراهن على درجةٍ مقبولة من حياديتها، والمنطقة العربية باتت تطالبه في السرّ والعلانية بالتخلّي عن الطموحات «العثمانية» من جهة، والتخلّي عن دور «المرشد» غير المنصّب لـ»الإخوان المسلمين» في الإقليم.
كذلك، ومن باب قول الحقيقة، فإن تركيا الأردوغانية هي بدورها  قرأت بصورة سليمة التراجع النسبي في دور «الغرب»، ونهاية المرحلة القطبية الوحيدة، كما قرأت جيّداً أنّ «تطبيع» علاقات تركيا بإسرائيل بات «مُلحّاً» لإغلاق كلّ «الثغرات» التي تسبّبت بها سياسات  تركيا الأردوغانية ذات الطابع الاستعراضي والدعائي، وأنّ المراهنات السابقة على سياسات كهذه لم تعد ذي صلة أو جدوى.
وباختصار، فإنّ تركيا عادت أو هي تعود إلى سياسة (صفر مشاكل مع أيّ أحد)، وعادت [دونما إعلان] إلى نفس الوُجهة التي كان قد نظّر لها أوغلو، خصوصاً أنّ الاقتصاد التركي لم يتمكّن من المحافظة على نفس مستويات النموّ السابقة، وعاد التضخُّم والغلاء يضربان الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي في البلاد، ولم تنجح سياسات الحزب «النقدية» بكبح جِماح هذا الواقع الجديد.
وسواء بقي «العدالة والتنمية» في الحكم، أو خسر الانتخابات التي ستجري في الأيّام القليلة القادمة، فإنّ تركيا باتت محكومةً بمعادلة لا تستطيع القفز عنها.
فإذا فازت «المعارضة» فإنّ تركيا ستعيد توثيق علاقاتها بـ»الغرب» أكثر ممّا هي عليه، ولكنها لن تتردّد في التفاهم مع سورية، والتصالح الحقيقي مع الإقليم، ما سيعيدها إلى الدور السلس بدلاً من الشرس، الذي ثبت عُقمه وطابعه المغامر والمتهوّر أحياناً، بل وأغلب الظنّ أن «المعارضة» ستتمكّن من «التصالح» مع المسألة الكردية التركية، ولا يُستبعد أن تعود الطموحات «الدفينة» للعلاقة الخاصة مع الاتحاد الأوروبي، إذا تعذّر الانضمام إليه.
أمّا إذا عاد «العدالة والتنمية» إلى الحكم، وفاز في الانتخابات، فإنّ الاستدارة الكاملة التي تحدّثنا حولها مراراً ستصل إلى الدرجة 180، وتكتمل معادلة الدور الإقليمي لتركيا بالدور «الناعم».
بعد «اكتمال» سلسلة المقالات حول الأدوار الإقليمية للدول الإقليمية، خصوصاً بعد تناول الدور المصري والإيراني، لا بدّ من التوقُّف أمام سؤال:
ماذا لو تحالفت دول الإقليم، وتبنّت سياسة متقاربة من إسرائيل.. فهل سيحدث ذلك أوّلاً؟ وما الذي سيُحدثه تقارب كهذا - إذا لم نقل التحالف - من تأثير في تطوّر الإقليم؟