عـن محاكـم التفتـيـش و«ازدراء» الأديـان

عبد الغني سلامة
حجم الخط

قضت محكمة مصرية بحبس الكاتبة «فاطمة ناعوت» و»إسلام البحيري»، بتهمة إزدراء الأديان، وكانت في وقت سابق قد قضت بتكفير «نصر أبو زيد» والتفريق بينه وبين زوجته. وفي ذاكرتنا القريبة «محاكم تفتيش» عديدة من هذا النوع: «صادق جلال العظم»، «علي الدشتي»، «طه حسين»، «علي عبد الرزاق»، «محمود طه»، فضلا عن إغتيال «فرج فودة»، «حسين مروة»، «مهدي عامل»، ومحاولة إغتيال «نجيب محفوظ». أما في ذاكرتنا البعيدة، فلدينا «جعد بن درهم» و»ابن المقفع» و»بشار بن بُرد»، و»غيلان الدمشقي»، و»الحلاج»، و»ابن رشد» و»الطبري» و»الرازي»، و»الراوندي» وغيرهم.


جريمة هؤلاء أنهم كتبوا أشياء مغايرة للخطاب النمطي السائد، اجتهدوا، وحاولوا التنوير، ونقد التراث الإسلامي، وقراءته من ناحية تاريخية، لكنهم اصطدموا بالمؤسسة الدينية المحافظة. وسواء اختلفنا أم اتفقنا معهم، المسألة هنا حرية التعبير، ومحاولات إسكات أي صوت معارض، بسطوة الإرهاب الفكري، والاحتماء بالنصوص، وتكفير الخصوم.


في عصر السادات سنَّ القانون المصري قانونا جديدا، خُصص لتهمة مبتكرة آنذاك أطلق عليها «إزدراء الأديان»، والدعوى المرفوعة بموجبه تدعى «الحسبة»، وصار بوسع أي مواطن أن يرفع قضية ضد أي فنان أو مفكر لا يعجبه طرحه، ويعتبره تطاولا على المقدس، وبالطبع كان وراء هذه القضايا جماعات الإسلام السياسي؛ التي أخذت تستقوي بهذه المحاكم للنيْل من خصومها.


والغريب أن القاعدة التي يرتكز عليها فقهاء التكفير تتسع وتضيق تبعا لاجتهادهم ورؤاهم، والسؤال هنا: من أعطاهم الحق بإطلاق الأحكام وتصنيف الناس ومنحهم شهادة الإسلام أو نزعهم إياها ؟ فبناء على أحكامهم، لو اعتبرنا أن كل مفكر أو أديب أو فنان خرج بتصوّر مغاير خارج عن السياق المحافظ هو كافر بالضرورة؛ فإننا سنُخْرج  كبار أدباء العربية من ملة الإسلام، مثل «أبى نواس»، و»الجاحظ» و»أبى حيان التوحيدي» و»ابن حزم» و»ابن عبد ربه» و»ابن العربي» و»إخوان الصفا» .. ولمنعنا أعمالهم من التداول وحرقنا كتبهم.


وهذا المنطق المتشدد هو أبعد ما يكون عن تذوق الفن أو قراءة الأدب أو فهم التاريخ بطريقة علمية؛ بل هو أبعد ما يكون عن الدفاع عن الدين، لأنه في حقيقة الأمر سعي حثيث من قبل المؤسسة الدينية الرسمية لتعميم الثقافة الشعبية والدينية عند المستوى التي ترتضيه السلطة، بعد أن تطبعها بسماتها، ولذلك فهي تخشى أي نقد أو تشكيك أو خروج عن التصوّر الذي تريد فرضه على الناس.

 بعبارة أخرى: يزعم هؤلاء أنهم يدافعون عن الله، وهم في الحقيقة يدافعون عن اعتقادهم بأنهم يمثلون الله ويحتكرونه لأنفسهم، أي يدافعون عن مصالحهم التي اقترنت بهذا الاعتقاد


فإذا كان الأدب والعلم يلتقيان مع الدين في الأهداف العامة، إلا أن تفاصيلهما وأساليبهما مختلفة؛ يلتقيان في الدعوة إلى المبادئ الإنسانية كالحق والخير والجمال، ويدافعان عن العدل والحرية وكرامة الإنسان، لكنهما يسلكان إلى ذلك طريقين مختلفين تماما.


الأدب والفن والنظريات العلمية والفلسفية شيء مختلف تماما عن الحقيقة الدينية؛ فالحقيقة في الأدب والفن والفلسفة غير ثابتة وغير واضحة وغير نهائية، لأنها تطرح الأسئلة الإشكالية وتستشرف المستقبل وتشكك في المطلقات والثوابت، أما الدين فهو يقيني وثابت، ويقدم الإجابات الجاهزة بلغة التقرير والتعليم.


الأدب والفن حالة إبداعية جدلية حرة اقترنت بالخروج عن المألوف، وارتبطت بالشعب وعبرت عنه؛ بينما الدين الذي اختزلوه في الفقه اقترن بالسلطة ومقتضياتها.

 ولا شك أن التباعد الذي حصل بين الدين في روحه ومضامينه الإبداعية وبين تجليات هذا الدين في ممارسات وفتاوى الفقهاء المنغلقة، قد أدى في النهاية إلى ما يشبه القطيعة بين الدين من جهة والإبداع من جهة أخرى، وبروز المنهج التكفيري في التراث الإسلامي.

 والسبب في ذلك (حسب أدونيس) يعود إلى التحول الدراماتيكي في فهم الإسلام بعد وفاة الرسول، إذ أن الرسول كان يسعى لتشجيع الإجتهاد وجعله قاعدة الإسلام الأساسية، بحيث يكون كأي اجتهاد بشري لا يتمتع بصفة الإطلاقية والثبات، ولا يكون هذا الاجتهاد إلزاميا، ولكن بعد وفاة النبي مباشرة تم التحول بفهم الدين بوصفه تجربة روحية حية ونظام حياة مرن ومتحرك إلى نظام كهنوت وفقه جامد، وهكذا بدأ الدين يتحول إلى مجرد فقه وتشريع، ثم صار وسيلة سياسية للحكم، وبالتالي تقلص عالمه الروحي الفكري إلى درجة صار يعتبر فيها الفقهاء كل إبداع بدعة تودي إلى الضلالة، و كل حرية فكر تهافت يؤدي إلى الكفر.


منظومة الأدب الفن والفلسفة تهدف لإنشاء تجربة خيالية محلّقة تسعى إلى إقناع الناس بأنها حقيقة، ولكن، لا يمكن للفن أن يبدع ويحلّق إلا إذا تحرر من كل القيود والتابو والمحرمات، ولكن على أن يكون هذا الفن جميلا محملا بطاقة فنية وإنسانية رفيعة، والعلم لم يمكن له أن يصل ما وصل إليه اليوم إلا بعد أن تخلص من سطوة الكهنوت، ولن يصل مداه إلا إذا أزال التابو من طريقه، والأدب لا يرتقي في بيئة تتسم بالتشدد والانغلاق تحكمها عقلية تتمسح بالنص المقدس، والإبداع لا يكون مع مقص الرقيب الذي يمارس رقابته بعقلية القيِّم، والمستقبَل لن نصل إليه ونحن مشدودين للماضي ومربوطين بأوتاد التاريخ.

 وهذا هو جوهر الخلاف مع مشروع الإسلام السياسي المثقل بالمثيولوجيا والتابو، والذي يحيط كل شيء بهالة من القداسة تمنع رؤيته، والذي تديره عقلية متزمتة تحرم أي شيء ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.


الإبداع الفني والفلسفي يهدف إلى الحرية، لأنه لا يقوم إلا بها، بينما الفكر السلفي الماضوي المحافظ يركز على القشور والشكليات التي لا تؤثر على السلطة ولا تتدخل في السياسة، ويؤسس لعقلية مستلبة منغلقة تميل إلى التحريم والتكفير، وبالتالي فهو يدعو للقمع والديكتاتورية بطريقة غير مباشرة؛ لأن الفكر المتزمت المتشدد يوفر الأرضية الملائمة لقوى القمع والاستبداد؛ فمثلا يدعو الفقه السلفي الجامد إلى طاعة الحاكم المسلم، ويحّرم الخروج عليه مهما ارتكب من ظلم، طالما أنه لم ينكر معلوما من الدين، ولم يسمح بالمنكر علانية.

 والأنظمة العربية الحالية تشجع هذا النوع من الممارسة الدينية، لأنها تضمن لها الاستمرارية بدون منغصات، بل وتعمل على كسب «وعاظ السلاطين» لجانبها، لتوظيفهم من أجل إكساب السلطة مشروعية القداسة الدينية.