حرب الاستنزاف في فلسطين

تنزيل (2).jpg
حجم الخط

بقلم بكر أبوبكر

حرب الاستنزاف هو مصطلح أطلقه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على حرب القوات المصرية والفدائيين المصريين التي اندلعت بمواجهة القوات الإسرائيلية المحتلة لسيناء وبالتالي للضفة الثانية لقناة السويس بعد النكسة للعام 1967م.


لقد تصدت قوة الصاعقة المصرية للاعتداءات الإسرائيلية في البداية، ثم تصاعدت العمليات العسكرية وتلك الفدائية خاصة بعد مساندة العرب لدول المواجهة، ورفض الاحتلال لقرار مجلس الأمن 242 الداعي للانسحاب الاسرائيلي من الأراضي العربية التي احتلتها.


استمرت حرب الفدائيين لنحو ثلاث سنوات، وخلالها استهدفت غارات سلاح الجو الإسرائيلي المدنيين المصريين أملاً في إخضاع القيادة السياسية المصرية، ولم تنجح كذلك المساعي الهادفة للتوصل إلى تسوية سلمية بسبب التعنت والرفض الإسرائيلي، وانما سادت حالة من اللا سلم واللا حرب، والتي أدت بدورها إلى نشوب حرب أكتوبر(1973م) بعد ثلاث سنوات، والتي انتصر فيها العرب.


شكلت النكسة وفكرة حرب الاستنزاف مفتاح اللقاء الذي تم بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الخالد ياسر عرفات حين طلب الاول من الثاني إشعال الحرائق، فرد عليه "أبو عمار" بل سأشعل ثورة، وهو ماكان حيث آلاف العمليات الفلسطينية بكل الجهود والأشكال التي ساهمت مع غيرها في النتيجة المتبلورة لاحقًا بانتصار العرب في حرب أكتوبر رمضان 1973م.


يسجّل لحرب الفدائيين المصريين على جبهة قناة السويس، مع ثورة الفدائيين الفلسطينيين وبقيادة حركة "فتح" وغيرها، أنها كانت هي حلقة الوصل بين النكسة والانتصار، وهي الجولة التي حصدت منها القوات المسلحة المصرية الخبرات والدروس الهائلة، الى جانب ما حققته الثورة الفلسطينية من اعتراف بها وبالقضية الفلسطينية.


أما حرب الاستزاف القائمة اليوم في فلسطين فإن الذي يقوم فيها فعليًا هو النظام السياسي الإسرائيلي، وتتلقاها القوى الفلسطينية بسكينة أو ردود فعل متناثرة أو متضاربة أو محدودة الأثر وضد بعضها البعض، على ثلاث جبهات (الداخل والضفة وغزة).


النظام الإسرائيلي بكافة تنوعاته السياسية ما بين الصهيوني العلماني والديني الفاشي، يقرّ بالأمر الواقع القائم في فلسطين المتمثل بالاستنزاف الذي قد يجر لانتفاضة فلسطينية قادمة، وإن كانت حتى الآن ستكون معزولة عربيًا لانشغال العرب بأولويات لاصلة لها بفلسطين.


إن الاستنزاف القائم في داخل دولة الاحتلال، وضد الشعب الفلسطيني هناك قد أدى لتواصل مسلسل القتل بأيدي الأخوة بعضهم ببعض الى معدلات عالية. ولسان الحال الصهيوني المتفرج على (الاسرائيلي الفلسطيني) يقول لابأس إنه عربي! و"فخّار يكسّر بعضه"، بل وانتقل التحريض العميق ضد كل ما هو عربي مع مجيء التيارات الدينية الفاشية الى الحكومة لأن يصبح القتل بلا أي سبب أو بلا أي مقدمات هو السِمة بالداخل. أيضًا كما حصل مؤخرًا من يهودي إسرائيلي ضد الشاب ديار عمري (20 عامًا) من قرية صندلة الذي تم سحبه من سيارته والتعارك معه بالأيدى، ثم إعدامه بإطلاق الرصاص عليه وهو الأعزل. فمن أمِن العقوبة أساء الأدب كما يقول المثل العربي الشهير، فما بالك والتحريض المستمر يقول: اقتل اقتل اقتل. (لك أن ترى ذات الممارسات بالضفة الغربية والقدس، وفي قطاع غزة) .


برعت الحكومة الإسرائيلية في حربها ضد السلطة الحاكمة في قطاع غزة حيث انتصرت في نموذج العصا والجزرة، بعد فصلها القطاع منذ أيام شارون، ووصلت معها لحالة من التوازن متفق عليها بين الطرفين، شبيهة بتلك بالضفة رغم فارق طبيعة الاتفاقين، ما لا يؤهل الطرف الفلسطيني لتحقيق أي مقاومة ذات جدوى من قطاع غزة، لاسيما والتقاطعات الحزبية البائسة وتلك الإقليمية المتلعثمة.


تقوم القوات الإسرائيلية بتكاتف صلب مع عصابات المستعمرين (المستوطنين) بانهاك الفعل الشعبي الفلسطيني المقاوم وهو لطابعة السلمي يجد الكثير من التحديات نتيجة القتل اليومي الاسرائيلي سواء للمقاومين المسلحين بعتادهم البسيط، أو للمواطنين العزّل لا فرق، ما يجعل من فكرة إدامة الفعل الشعبي السلمي صعبة نفسيًا وصعبة في مواجهة الدم والجماهير.


تقوم القوات الاسرائيلية باستنزاف الجماهير الفلسطينية المقاومة بشكل شعبي عبر اعتداءات المستعمرين المحمية من الجيش في كل مدينة وقرية وخربة وبقعة في فلسطين من أقصى جنوب الخليل الى شمال جنين لا تستثني نقطة واحدة. فلا تدع لجهود المقاومين السلميين أن تركز في نقطة محددة في مقابل القوة الصهيونية المنظمة والمدعومة سياسيًا وماليًا وعسكريًا.


إن الاستنزاف الجماهيري من قبل المحتل الإسرائيلي مع تواصل التمدد على مساحة الأرض الفلسطينية يُسقط في نفوس الشباب المتحمس أن لا أمل في الفصائل جميعها، التي تقول ولا تفعل شيئًا، ويسقط في عقلها ضرورة وواجب المقاومة بالسلاح رغم الخلل الفظيع والذي لا يُقارن بحجم القوى بكافة أشكالها سوى العدالة مقابل الظلم، خاصة في ظل التقانة (التكنولوجيا) الجديدة الداهمة.


مقاومة الفلسطيني الأعزل اليوم هي بقوة نضال النبي محمد صلى الله عليه وسلم ضد قريش قبيلته لأنها معركة الحق الأبلج ضد الباطل المتلجلج بل والغاشم.


وهي بذات الوقت معركة البطل التاريخي الفلسطيني النبي داوود ضد جالوت (جوليات) الظالم من نفس القبيلة الفلسطينية -إن آمنا أن مسرح الاحداث التوراتي القديم كان في فلسطين- إنها معركة الضعيف ضد المستبد المتجبّر، وهي مقاومة ضد الرواية الفاسدة والظلم التاريخي أولًا وضد الاحتلال وضد الأبارتهايد.


المقاومة الفلسطينية خاصة بشكلها العنفي تفتقد الحاضنة والدعم الرسمي من السلطة أوالدعم الحقيقي -وليس اللفظي القائم- من كافة الأحزاب، ومن المحيط العربي ما يجعل الانتصار بالمعركة غير قابل للتحقيق.


إن الاستنزاف الصهيوني على جبهة الضفة سيحقق مزيدًا من القتل (خلال 120 يومًا فقط من بداية العام 2023 ارتقى ما يقاربمن ال 130 شهيدًا) أي بالحقيقة "مذبحة متسلسلة" بمعدل شهيد أوأكثر كل يوم!
إن المعركة الاحتلالية بالاستنزاف للقوة الفلسطينية البشرية القائمة سواء بسلميّتها، أو عنفيتها المحدودة تسعى نحو مزيد من الهيمنة والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية مكرّسة لدولة المستوطنين/المستعمرين بالضفة من جهة، ومواصلة عزل غزة، وإشغال الداخل، والرفض المطلق للاعتراف بدولة فلسطين القائمة بالحق الطبيعي والقانوني والسياسي.


يمكن النظر أيضًا لحرب الاستنزاف المستمرة في المساحات الثلاث أي بالداخل وفي غزة والضفة ومنها بالقدس أنها صراع وجود مقابل ولا وجود حيث يصرّ المستعمر (المستوطن) وحُماته من الجيش والمؤسسة الحاكمة على إثبات أحقية الإسرائيلي فقط بالوجود، وعلى نفي أحقية وجود الشعب الفلسطيني في كل مساحة من أرض فلسطين.


لقد شكلت حرب الاستنزاف المصرية لقاءً بين عبد الناصر وعرفات، بين الثوار المصريين والفلسطينيين فهل تشكل الحرب المحتدمة الدائرة اليوم من قبل القوة الداهمة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ومناضليه لقاءً فلسطينيا أو عربيًا ذو شأن، يقلب المعادلة!