عبدالناصر في حرب فلسطين

حجم الخط

بقلم عبدالله السناوي

 

بعد 75 عاماً على حرب فلسطين تتبدى ضرورات المراجعة من جديد، حتى تستبين الحقائق بأكبر قدر ممكن من التوثيق لنعرف ما الذي جرى بالضبط؟ لماذا هزمنا في 1948؟

هذا سؤال في الحاضر لا في التاريخ. بالنظر السياسي كان دخول الجيوش العربية الحرب بالطريقة التي جرت بها، مقدمة هزيمة محققة. لم يكن رئيس الحكومة المصرية محمود فهمي النقراشي موافقاً على التدخل العسكري مثل أغلب النخب الحاكمة.

كان رأي الحاج أمين الحسيني- مفتي فلسطين والمتحدث الأول باسم شعبها- أن تُسند مهمة المواجهة العسكرية إلى جماعات المتطوعين ودعمها بالسلاح والمال، على أن تبقى الجيوش رابضة على الحدود متأهبة ومستعدة.

لم تكن هناك نظرة سياسية شبه متقاربة، ولا استراتيجية تجمع الجيوش العربية.

وبالنظر العسكري نسبت الهزيمة إلى رجلين:

الأول- اللواء المصري أحمد المواوي، قائد حملة فلسطين، وقد حاول بعد الحرب أن يبرئ ساحته، كاشفاً عن مخاطبات كتبها لقياداته يحتج فيها على إرسال القوات دون تدريب كافٍ، أو أسلحة لازمة.

والثاني- الجنرال الإنجليزي جون باجوب جالوب، الذي أسندت إليه القيادة العامة للجيوش العربية، وقد كان يأخذ تعليماته في مجريات الحرب من لندن!

لم يكن بوسع الضابط الشاب جمال عبدالناصر، الذي تجاوز بالكاد الثلاثين من عمره، وهو يصل بقطار عسكري إلى غزة يوم 3 يونيو/ حزيران 1948 أن يتوقع، أو يمر بخاطره، أن تجربة الحرب في فلسطين سوف تحكم الخطوط العريضة لتوجهاته وتدفعه- بعد توقف معاركها والعودة للقاهرة - إلى إعادة بناء تنظيم «الضباط الأحرار» من جديد وتشكيل هيئته التأسيسية، التي أطلت على مسارح السياسة الملتهبة يوم 23 يوليو 1952.

تحت وهج النيران في فلسطين تغير مسار حياته مرة واحدة وإلى الأبد. تلك حقيقة لا يمكن نفيها في ظل ما سجله جمال عبدالناصر رئيس أركان الكتيبة السادسة في دفتر يومياته الشخصية، التي كتبها على مكتب فوقه لمبة غاز أثناء حرب فلسطين.

أصدق ما ينسب لرجل ما يكتبه بخط يده، تعبيراً عن مشاعره ومشاهداته في لحظة الحدث، دون توقع أن أحداً سوف ينظر فيما كتب، ولو بعد عشرات السنين.

اليوميات أقرب إلى كشافات تضيء أجواء حرب فلسطين والتخبط فيها. لم يكن هناك أي تهيّؤ عسكري، أو تخطيط استراتيجي لأوامر القتال، ولا أدنى استعداد في الجاهزية القتالية لدخول الجيوش العربية فلسطين.

بخط يده سجل انتقادات حادة ومتواصلة على درجة عالية من الحدة والغضب، ف«لا يوجد احتياط مطلقاً من الفصيلة للواء… ولا توجد أسلاك أو أي تحصينات سوى الحفر».

قبل بداية الحرب استطاعت الوكالة اليهودية حشد 81 ألف مقاتل، معظمهم ضباط اكتسبوا خبرة عسكرية في سنوات الحرب العالمية الثانية، فيما كانت أعداد الجيوش العربية مجتمعة 37 ألف ضابط وجندي!

وكانت أعداد الطائرات التي في حوزة القوات اليهودية، كما كان يطلق عليها بذلك الوقت، 78 طائرة عند بداية الحرب فيما لم تتجاوز ال30 طائرة على الجانب العربي.

لم تكن فوارق السلاح خافية، أو باغتت صناع القرار فجأة. حسب ما أورده الأستاذ محمد حسنين هيكل في «العروش والجيوش»، وهو كتاب مرجعي من جزأين أهميته في قدر توثيقه، حيث يتضمن سجلاً كاملاً للبرقيات العسكرية المصرية أثناء الحرب، فإن الحقائق تعلن عن نفسها. البرقيات ترسم صورة كاملة لميادين القتال، بطولاته وانكساراته.

المثير للاستغراب، أنها لم تُدرس حتى الآن بما تستحق من اهتمام وتدقيق ومقارنة مع وثائق الجانب الآخر في الحرب.

«إن يومية الحرب هي في العادة أكمل مستند تاريخي، لصورة ميدان القتال والخلفيات السياسية الواصلة إليه.

«يوميات الحرب»، تأخر نشرها لعقود طويلة حتى قرب نهاية القرن العشرين، كما حدث تماماً في يوميات جمال عبدالناصر الخطية.

في المرتين احتفظ بودائعه قبل أن يقرر نشرها، المرة الأولى- بقرار منه حتى يضع وثائقها في عهدة التاريخ والباحثين.. والمرة الثانية - بإلحاح مني حتى تنجلي الصورة الكاملة. وكان اعتقاده- كما قال لي: «لكل نشر وقته».

أسوأ ما كتب عن حرب 1948، نسبة هزيمتها إلى عبدالناصر! كان ذلك تجهيلاً متعمداً بدواعي الانتقام السياسي وتكريساً للهزيمة في الوجدان العام.

لم تكن الكتيبة السادسة المحاصرة في الفالوجة مستعدة أن تستسلم، مؤكدة على القتال حتى آخر رجل، وفق البرقيات الرسمية.

بخط يده كتب يوم 28 أكتوبر 1948: «.. سنقاوم إلى آخر رجل..». تكاد تكون تلك العبارة القاطعة لمقاتل شاب - بدواعي غضبها- البداية الحقيقية لقصته كلها، كأنها نقطة تنوير مبكرة في نص روائي طويل.

كانت حرب فلسطين ببطولاتها وتضحياتها وأوجاعها، وما كشفته من أوضاع مختلة في قيادة الجيش وقيادة البلاد، المحرك الأول لما جرى في مصر بعد أقل من أربع سنوات بإطاحة النظام كله