تثبت العملية الأخيرة في قطاع غزة، والتي وافقت إسرائيل و"الجهاد الإسلامي" على إنهائها، أول من أمس، ثانيةً أن المواطنين الفلسطينيين في القطاع، وبدرجة كبيرة الإسرائيليون من سكان غلاف غزة، تحولوا رهائن لسياسة عديمة الجدوى، تحافظ على الوضع القائم، وتضمن أن دائرة العنف ستستمر.
منذ 2019 تركز إسرائيل في نشاطاتها في القطاع على "الجهاد الإسلامي". ابتداءً من اغتيال القائد الكبير في هذا التنظيم، بهاء أبو العطا، مروراً بعملية "بزوغ الفجر" في آب الماضي، وانتهاءً بأيامنا هذه. التركيز الإسرائيلي على "الجهاد" وجد تعبيره الواضح أيضاً بعد عملية "حارس الأسوار" في 2021. في هذه العملية، كانت "حماس" في الواقع جزءاً من المعركة، ولكن بعد ذلك تبنت "حماس" إستراتيجية مختلفة أساسها تجنب إشعال قطاع غزة طالما يقود مسلحون في الضفة الغربية المقاومة ضد إسرائيل.
نتيجة لهذا الوضع، لا يوجد لإسرائيل مصلحة في إيجاد حرب لمشكلة غزة. على المستوى السياسي الوضع القائم هو الأفضل بالنسبة لإسرائيل - فصل سياسي بين الضفة والقطاع، وقطيعة بين كلا القيادتين، وسيطرة مطلقة على السكان المدنيين، وتسهيلات مدنية، وإدخال بضائع تجني منها إسرائيل ربحاً. كل هذه مريحة لإسرائيل، وطالما أنها لا تتعرض لتهديد استراتيجي حقيقي فإنها قادرة على القيام بعملية عسكرية من حين لآخر مثل العملية التي نشهدها منذ الأسبوع الماضي. اختفى الخوف من ضرر كبير يلحق بالمدنيين الإسرائيليين تقريباً بفضل تكنولوجيات الدفاع الجوي، ولا تشكل إمكانية المس بالفلسطينيين اعتباراً جوهرياً من ناحية معظم الإسرائيليين.
لا تريد إسرائيل والدول العربية وبالتأكيد ولا الإدارة الأميركية - سواء أكانت ديمقراطية أم جمهورية - حسماً في غزة. لا أحد مهتما باحتلال القطاع وإعادة السلطة الفلسطينية بالقوة إلى هناك، وليس هناك ضغط عربي وإقليمي بإنهاء الانقسام بين "فتح" و"حماس"، ولا توجد أي جهة تدفع نحو انتخابات في القطاع وفي الضفة من أجل أن يتم بصورة ديمقراطية حسم من يحكم الشعب الفلسطيني، ويبدأ مفاوضات سياسية جدية مع إسرائيل. تفضل كل الأطراف أن يكون في الضفة وغزة كيانان، كل وكنتونه الخاص به.
تخدم هذه السياسة بصورة جلية مصالح "حماس". أثبت الإعلان عن وقف إطلاق النار ثانيةً أن هذا التنظيم ينجح في تثبيت صيغة بموجبها فإنه وكسيد مطلق في القطاع غير معني باشتعال واسع، ولكنه يحتفظ لنفسه بهامش الردع. في "حماس" مستعدون لقبول هذه النسخة حتى بثمن المس بكبار قادة الذراع العسكرية لـ"الجهاد"، التنظيم الذي كما يبدو حليفا وشريكا في محور المقاومة ضد إسرائيل.
خلال العملية، وحتى الإعلان عن وقف إطلاق النار، وجهت إسرائيل هجماتها فقط نحو أهداف تعود لـ"الجهاد الإسلامي" ولتنظيمات أصغر مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في حين ادعت "حماس" بصورة رسمية أنها تشارك في غرفة العمليات المشتركة للفصائل الفلسطينية، وفي كلا الطرفين يدركون أن "حماس" ضبطت نفسها إزاء الهجمات الإسرائيلية، كما يبدو نظرياً أنها تخاف من الرد، وأنها غير معنية بفقدان ممتلكات وبالمس ببناها التحتية التنظيمية، فعلياً، وفرت "حماس" لباقي الفصائل الفلسطينية مساعدة لوجستية محدودة أو استشارة، لكن التنظيم لم يكن شريكاً في القتال بصورة فعالة، ما مكن إسرائيل من تجنب مهاجمته.
في إسرائيل يمكنهم الادعاء بأن حقيقة أن "حماس" لن تكن شريكاً نشطاً في القتال يشكل إنجازاً، ويدلل أنها خائفة. ولكن فعلياً رسخت "حماس" مكانتها كضلع رئيسي في ميزان الردع. في الواقع ليس بمستوى "حزب الله" في لبنان، ولكن فعلياً تدلل التصريحات الإسرائيلية، التي تعتبر عدم تدخل "حماس" هدفا، على أن بإمكان هذا التنظيم أن يتحدى دولة مثل إسرائيل.
يمكن الافتراض أنه في نهاية العملية سيعود كلا الطرفين إلى الوضع الراهن الذي تثبّت في السنوات الأخيرة - هدوء مقابل هدوء، ترافقه تسهيلات مدنية في المعابر وفي مساحة الصيد، ومساعدة مالية قطرية ومشاريع ستنفذها الأمم المتحدة. أكثر من ذلك غير ممكن. في الواقع يوجد لـ"حماس" قدرة عسكرية كبيرة، ومع السنين يطور هذا التنظيم أسلحة وصواريخ، ولكن يوجد تحت مسؤوليته مجموعة سكانية كبيرة تغير منظومة اعتبارات قادتها، وحتى إذا كانوا هناك يتفاخرون بكونهم تنظيم مقاومة شعبيا فإنهم بالفعل يتبنون نموذج السلطة الفلسطينية.
***
اليوم، 15 أيار، ذكرى النكبة، حيث سيلقي رئيس السلطة الفلسطينية خطاباً في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. هذا الرجل، الذي يتحدث منذ 30 عاماً عن حدود 1967، سيأتي للحديث أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة عن 1948. أمام عينيه يرى كيف أن إمكانية التوصل لحل الدولتين قد تآكلت، وكيف أن المجتمع الدولي يفقد اهتمامه وبدرجة كبيرة أصبح لامبالياً بما يحدث في قطاع غزة.
أيضاً جهود الوساطة لوقف إطلاق النار تجاوزت رام الله، حيث جرت النقاشات بخصوصها في الدوحة، العاصمة القطري، حيث يقيم هناك رئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، إسماعيل هنية، وفي بيروت حيث يتواجد أمين عام "الجهاد الإسلامي"، زياد النخالة.
حتى وإن كانت السلطة الفلسطينية مسؤولة بصورة رسمية عن شؤون الفلسطينيين في الضفة وبغزة فإنها لا تحظى باهتمام.
أول من أمس، بعد 5 أيام من بداية القتال، نشر مكتب عباس إدانة للهجمات في القطاع، وفي مكتب الرئيس دعوا الإدارة الأميركية وبصورة فورية، للتدخل فيما اعتبر عدوانا إسرائيليا و"تجاوزا لكل الخطوط الحمراء، واستمراراً لسياسة القتل والجرائم ضد الشعب الفلسطيني". في محيط عباس اتهموا الولايات المتحدة بأنها تتحمل المسؤولية عما يجري "بسبب سكوتها المدوي فيما يتعلق بهذه الجرائم، وعدم تدخلها الفوري لإيقاف إسرائيل".
في نهاية الأسبوع، يوم الجمعة، سيصل عباس للسعودية، للتحدث أمام الجامعة العربية. أيضاً يعرف عباس أن نجم هذه المناسبة سيكون الرئيس السوري، بشار الأسد، العائد إلى حضن الجامعة، وأنه في مركز النقاش لن تقف القضية الفلسطينية. في كلا المنصتين، الأمم المتحدة والجامعة العربية، سيطلب عباس من العالم للتدخل في النزاع مع إسرائيل، ولكن فعلياً لا أحد يهتم. المعادلة أصبحت ثابتة: الفلسطينيون مطلوب منهم أن يضمنوا للإسرائيليين الهدوء وإلا فإن مصيرهم سيكون مريراً.
عن "هآرتس"