معركة "ثأر الأحرار" ... تقييم أولي

ugr5e.jpg
حجم الخط

بقلم هاني المصري

 

بعد أن سكتت المدافع والصواريخ، يمكن الاجتهاد بإجراء تقييم أولي لمعركة "ثأر الأحرار"؛ بهدف استخلاص الدروس والعبر، وكل اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، أو ما بينهما، ويمكن إجمال ذلك في النقاط الآتية:

أولًا: المقاومة حققت إنجازًا كبيرًا

حققت المقاومة، وتحديدًا حركة الجهاد الإسلامي، إنجازًا كبيرًا؛ لأن حكومة الاحتلال على الرغم من تفوق جيشها والاختلال الفادح في ميزان القوى لم تستطع كسر إرادته، وحسم المعركة لصالحها بالقضاء عليه، ولا الانتصار بها عبر تحقيق أهدافها بشكل واضح وساحق، بدليل أن سرايا القدس لم تُكسر إرادتها، ولم تخضع، ولم ترتدع، بل واصلت إطلاق الصواريخ والقذائف حتى اللحظة الأخيرة، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته، والذي تمثل في استشهاد ستة من أبرز أعضاء المجلس العسكري لسرايا القدس، وقصف أهداف كثيرة تابعة لها، مع أنه لم يوجه لها ضربة قاصمة قاتلة.

ليس من السهل تعويض هذا الثمن بسرعة، فتكوين قائد بمعرفة وبخبرة نوعية، ليس أمرًا يمكن تحقيقه بفترة قصيرة. ومع ذلك، واصل الجهاد إطلاق صواريخه وهو مجرد تنظيم صغير لا يقارن حجمه وقوته بحجم وقوة حركة حماس، ولا بقوة جيش الدولة النووية الذي يعدّ رابع أقوى جيش في العالم. كما وصلت الصواريخ إلى جنوب تل أبيب والقدس، واستطاعت أن تكبد الكيان المحتل خسائر بشرية (قتيل ونحو 100 جريح)، إضافة إلى دمار في بعض المنازل والأبنية، وخسائر اقتصادية ومادية ومعنوية كبيرة، ترتبت عليها هجرة أعداد كبيرة من المستوطنين في غلاف غزة، فضلًا عن شلل وشبه شلل لمدة خمسة أيام لأكثر من مليون إسرائيلي، وإرباك وصل إلى حركة الطيران ودورة الاقتصاد والتعليم.

ثانيًا: الاستفراد بالجهاد الإسلامي

لا مفر من الاعتراف أن حكومة الاحتلال استطاعت الاستفراد بالجهاد الإسلامي، وهذا يتضح في أن الأهداف التي استهدفتها تركزت عليه، سواء باغتيال قادته وقصف منازلهم، (هناك أربعة شهداء من كتائب أبو علي مصطفى، إضافة إلى شهداء آخرين من المدنيين أطفال ونساء). فقد تحمل الجهاد عبء المعركة الرئيسي من إطلاق القذائف والصواريخ، وحتى التفاوض وحده لوقف إطلاق النار.

أما الحديث عن الدعم اللوجستي والتوافق الوطني والقرار الواحد والغرفة المشتركة، فهذا حصل، وجيد وأفضل من عدم حدوثه، ولكنه لا يعني وحدة ومشاركة حقيقية في المعركة، ولا يلغي الاستفراد بالجهاد، وهذا الاستفراد الذي يحدث للمرة الثالثة (تشرين الثاني 2019، وآب 2022، وأيار 2023)، يحول المسألة من صدفة وحدث عابر إلى ظاهرة يجب التوقف عندها لإيجاد حل وليس إنكار وجودها.

وهنا يجب ملاحظة أن حكومة الاحتلال التي كانت تعتبر أي عمل مقاوم من قطاع غزة تتحمل مسؤوليته حركة حماس، قد تراجعت من أجل دق إسفين بين حركتي حماس والجهاد، وغضت النظر عن تغطية "حماس" لمعركة خضر عدنان "ثأر الأحرار" سياسيًا، وعبر تقديم تسهيلات ومساعدات مختلفة.

ثالثًا: مكانة أكبر للجهاد في الخريطة السياسية الفلسطينية

إن الدور الذي تقوم به حركة الجهاد كما ظهر في المعارك التي خاضتها منفردة، وفي دورها في تصعيد المقاومة في الضفة؛ يؤهلها لأن تحظى بمكانة أكبر في الخريطة السياسية الفلسطينية وفي الإقليم، شريطة التمكن من استثمار هذا الدور سياسيًا وتنظيميًا وجماهيريًا وعسكريًا، وهذا أمر حتى يتحقق بحاجة إلى أكثر من دور عسكري في المقاومة، فهو بحاجة إلى بلورة رؤية ومشروع سياسي وإستراتيجيات متعددة ومؤسسات متنوعة، وإلى سير الدور المقاوم مع بناء تنظيمي متكامل يؤدي أدوارًا سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية.

رابعًا: خلاف سياسي على عناوين معارك الجهاد الانفرادية

إن التباين والخلاف في المشاركة في المعارك المذكورة التي خاضتها الجهاد منفردة يعود إلى اختلاف في موقع الجهاد وموقفه، ووجود خلاف سياسي؛ إذ لم يشترك الجهاد في السلطة، لذلك المقاومة عنده تخدم إستراتيجية التحرير. أما "حماس" فلديها مشروع سياسي؛ حيث انفردت في السيطرة على السلطة في غزة، وهذا أدى موضوعيًا وتدريجيًا إلى أن المقاومة عندها تخدم وتلبي حاجات السلطة، أو تخضع لقيودها ومسؤولياتها أكثر ما تخدم إستراتيجية التحرير، وهذا يطرح مجددًا مسألة صحة وإمكانية الجمع ما بين المقاومة المسلحة والسلطة التي تحت الاحتلال، وإن بشكل غير مباشر، ومن خلال الحصار والعدوان، خصوصًا في ظل عدم وجود عمق إستراتيجي وبيئة عربية وإقليمية ودولية ملائمة، وهذا الواقع يغلب شيئًا فشيئًا مصلحة السلطة على أي شيء آخر.

كما تفضل "حماس" دعم وتطوير المقاومة الصاعدة في الضفة؛ لأنها أقل تكلفة للفلسطينيين وتكلف الاحتلال غاليًا، من دون أن يعني ذلك كما تروج أوساط السلطة في الضفة أن هدف "حماس" تنفيذ انقلاب في الضفة مثلما فعلت في غزة، وهذا غير صحيح؛ لأن "حماس" لا تريده، والأهم لا تقدر على تنفيذه؛ لأن الاحتلال يقف لها بالمرصاد.

كما تعود جذور الخلاف إلى عناوين المعارك، وهي مسألة وجيهة، وهل تخاض لأسباب وطنية أم فئوية من أجل تحرير أسيرين من الجهاد (خليل العواودة وبسام السعدي) في عدوان آب 2022، أو ردًا على اغتيال أسير حتى لو كان بحجم الشهيد خضر عدنان، وإلا لماذا لم تخض المعركة لإنقاذ حياته، أم أفضل أن تخاض بعناوين وطنية مثلما حصل في معركة سيف القدس الذي كان عنوانها القدس وحماية الأقصى؟

وما يعطي لهذا الأمر أهمية عظمى أنه مع كل التقدم الملهم الذي أحرزته المقاومة عتادًا وعدة وخبرة في ظل الحصار والسجن الذي تعيش فيه، لكنها لم تردم الهوة الواسعة في موازين القوى، ولم تتحول إلى جيش أو شبه جيش نظامي يساوي أو حقق أو اقترب كثيرًا من تحقيق توازن الردع أو توازن الرعب، مع جيش الاحتلال، فهذا الاعتقاد حمّل ويمكن أن يُحمّل غزة والمقاومة فيها أكثر مما تحتمل.

والدليل القاطع على ما سبق أن شعبنا في القطاع قدم منذ العام 2005 أكثر من 4 آلاف شهيد وأضعافهم من الجرحى والمعاقين، فضلًا عن تدمير البنية التحتية، وتدمير عشرات آلاف الوحدات السكنية، في حين بلغت الخسائر البشرية الإسرائيلية حوالي 200 قتيل، وأضعافهم من الجرحى، مع تدمير عدد من المنازل، وإلحاق خسائر مادية ومعنوية كبيرة في الاقتصاد الإسرائيلي والمجتمع الإسرائيلي.

حرية الأوطان غالية

الأهم مما سبق، أن تحرير الأوطان لا يقاس بالأثمان مهما ارتفعت، وإنما في النتائج المتحققة، فعلى الرغم من صمود المقاومة وبسالتها، لكنها لم تحقق الأهداف الكبرى التي رفعتها، (وهذا ينطبق على المسيرة الكفاحية الفلسطينية منذ بدايتها وحتى الآن؛ إذ لم تحقق النضالات والتضحيات والبطولات مكاسب توازيها، بل أهدرت القيادة المتنفذة بشكل خاص، والقيادات على مختلف أشكالها بشكل عام، وارتكابها الأخطاء والخطايا، وعدم استيعاب دروس التجارب السابقة؛ الكثير من المكاسب، ولم تمكن من تحقيق مكاسب أخرى.

فالمقاومة الغزية البطلة أبقت راية القضية والكفاح عالية، وحافظت على وجودها وعززته، ولكنها لم تستكمل تحرير القطاع ورفع الحصار عنه، ولم نحصل على مطار ولا ميناء، بل لا يزال القطاع يدور ضمن دوامة استمرار الانقسام ومعادلة تفاهمات وهدوء مقابل هدوء وتسهيلات معيشية واقتصادية، وينطوي ما يجري فيه على مخاطر نجاح أو تقدم فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وجعل إقامة كيان فلسطيني فيه يرتبط أو لا يرتبط لاحقًا بالمعازل المأهولة بالسكان، والمقطعة الأوصال في الضفة، هو الحل الفعلي الجاري تنفيذه للقضية الفلسطينية.

خامسًا: استعادة أو ترميم صورة الردع الإسرائيلية المتآكلة

كانت أهداف حكومة نتنياهو من العدوان استعادة الردع الذي تآكل من عدم رد قوات الاحتلال، أو ردها بشكل محدود واستعراضي على قصف الصواريخ وعلى تصاعد المقاومة في الضفة، وتحميل المقاومة بغزة المسؤولية عن ذلك.

لم تتمكن حكومة نتنياهو من استعادة صورة الردع، لكنها رممته بشكل نسبي، من خلال اغتيال ستة قادة بارزين من أعضاء المجلس العسكري لسرايا القدس؛ ما يعكس نجاحًا أمنيًا واستخباريًا وعسكريًا لدى إسرائيل، وخللًا أمنيًا لدى الجهاد وفي القطاع عمومًا يجب معالجته.

وهناك هدف إسرائيلي آخر تحقق من العدوان، وهو نجاح الحكومة التي عانت من التصدع على خلفية الخلاف حول الرد الإسرائيلي على المقاومة، فقد رممت نفسها، وتجلى ذلك بعودة الوزير إيتمار بن غفير لحضور اجتماعات الحكومة، وعودة نواب حزبه لحضور اجتماعات الكنيست، وحاجة الائتلاف الحاكم إلى استمراره ستجعل من الصعوبة انهياره.

وهناك هدف ثالث للعدوان، وهو تصدير الأزمة الداخلية الإسرائيلية العميقة والبنيوية وغير المسبوقة إلى الخارج، ووقف تراجع شعبية الليكود وزعيمه والأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم، وقد حصل هذا وذاك؛ إذ وقفت المعارضة وراء الحكومة، وجمّدت مظاهراتها الاحتجاجية، كما ارتفع الليكود في أغلب الاستطلاعات من 5-6 مقاعد مقارنة باستطلاعات ما قبل العدوان (من 22 إلى 28 مقعدًا)، وقلّص الفارق بينه وبين "المعسكر الوطني" بقيادة بيني غانتس، وفي بعض الاستطلاعات تفوّق الليكود عليه.

وقف العدوان أهم إنجاز

صحيح أن هذه النجاحات مؤقتة، ووقف العدوان من شأنه أن يفتح ويوسع الحوار والنقد والشقاق بين الإسرائيليين، لعدم نجاعة ما تقوم به حكومة نتنياهو في مواجهة تصاعد المقاومة الفلسطينية، خصوصًا في الضفة الغربية، وأن يؤجج الصراع الداخلي، لذلك فإن أهم إنجاز للفلسطينيين هو وقف العدوان، ولو أمكن وقفه مساء يوم الخميس بعد قصف جنوبي تل أبيب والقدس لكان أفضل، فلم يتحقق شيء بعد ذلك؛ لأن نص وقف إطلاق النار يفسره كل طرف كما يحلو له، ويعامل الطرفين على قدم المساواة، وهو لا يضمن شيئًا، وغيابه أفضل من وجوده، فالضمانة هي قوة المقاومة وإنجاز وحدتها في غرفة العمليات والميدان والتفاوض، من خلال بلورة رؤية وإستراتيجية موحدة وقيادة وطنية واحدة.

أما لمن طالب باستمرار المعركة حتى يوم الخميس القادم (18 أيار)، موعد مسيرة الأعلام؛ لأنها ستفشلها، ويمكن أن تسقط الحكومة الكهانية، ويدلل على ذلك بأن الجهاد لم يعد لديه ما يخسره .... ينسى أصحاب هذا الرأي أن استمرار المعركة يكبد شعبنا في قطاع غزة خسائر إضافية، فأثناء العدوان أغلقت المعابر، وشُدّد الحصار، وبدأ العدوان يركز على المنازل وأهداف مدنية، ويهدد بتوسيع المعركة، كما أن استمرار المعركة سيترتب عليه مزيد من الضربات للجهاد، هذا إذا استمر الاستفراد فيه، وإذا شاركت حركة حماس فستتوسع المعركة وتلحق خسائر كبيرة ليس في أفضل وقت للفلسطينيين، خصوصًا أن الضفة لم تشهد عمليات نوعية ضد الاحتلال، ولم تتكرر الصواريخ بعيدة المدى التي ضربت تل أبيب والقدس.

لم يكن الزخم الشعبي الذي رافق المعركة، في أحسن حالاته، ولا يقارن بالزخم الذي رأيناه في معركة سيف القدس، التي اندلعت عندما كانت المعركة حول الأقصى في ذروتها، وبالتالي كانت لها نتائج ملموسة، خصوصًا على وحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية، وجسدت وحدة الساحات فعلًا، بينما المعركة الأخيرة لم تفعل ذلك بل وسعت أو يمكن أن توسع الشرخ في ساحة غزة. فالزخم الشعبي في أيار 2021 لم يتوفر في أيار 2023.

ولمن يعتقد إن إسقاط حكومة نتنياهو فورًا هو هدف فلسطيني، نقول إن تشكيلها أفضل هدية من السماء، كونها أضعفت إسرائيل بشكل كبير وأدخلتها في أزمة غير مسبوقة داخليًا، وأظهرت وجهها القبيح للعالم كله؛ حيث بدأت قطاعات متزايدة في العالم، بمن فيهم اليهود، تتعرف إلى طبيعة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والإجرامية، وتخشى من تأثيرها المدمر على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم!

في هذا السياق، من المنطقي التفكير بأن الجولة القادمة قادمة؛ لأن الإستراتيجية الإسرائيلية لم تتغير كثيرًا إزاء المقاومة الفلسطينية منذ عقدين حتى الآن؛ إذ تصاعدت خلال العامين الأخيرين، بما في ذلك منذ تولي الحكومة التي روجت أنها قادرة على حسم الصراع مع الفلسطينيين بسرعة وبطريقة مختلفة عما فعلته الحكومات السابقة، فهناك جولة واستراحة وجولة، ولا يوجد حسم لصالح إسرائيل على الرغم من الأثمان الباهظة، أما المقاومة فتراكم قوتها، بينما يستمر الانقسام الفلسطيني ويتعمق.

سادسًا: الإستراتيجية الموحدة غائبة، حتى بين فصائل المقاومة

ظهر تأثير الانقسام المدمر واضحًا في هذه المعركة أكثر من أي مرة سابقة؛ إذ قال عزام الأحمد، الذي كان رئيس الوفد الفلسطيني الذي تفاوض على وقف النار بعد عدوان 2014: إنّ السلطة ليست طرفًا في هذه الحرب بسبب الانقسام، وهذا صحيح؛ إذ ظهرت أمام الجميع بوصفها طرفًا ليس ذا صلة، وهذا يعزز دور معارضيها أمام الإقليم والعالم، وأمام قطاعات فلسطينية واسعة، وتضعف السلطة أكثر وأكثر جراء ظهورها بأنها تندمج أكثر بمنظومة الأمن الإسرائيلي، لذا من الطبيعي أن تصبح مصلحتها هزيمة المقاومة حتى تذكي خيارها البائس.

كان يمكن اعتبار العدوان نقطة انطلاق لاستعادة الوحدة، أو لإنجاز هدف إفشال العدوان بشكل مشترك، عبر تكامل أدوار يستخدم فيها كل طرف الأوراق التي يملكها، وعناصر القوة والتميز التي لديه.

أثبتت المعركة عدم وجود إستراتيجية موحدة، حتى بين فصائل المقاومة، وهذا إذا لم يجد حلًا واهتمامًا، يمكن أن يقود إلى المزيد من التمزق والشرذمة والانقسام، وربما إلى الاقتتال بين قوى المقاومة نفسها، فلا ينفع استمرار صيغة تحمّل فصيلًا واحدًا عبء المواجهة العسكرية، ولا تحميل قطاع غزة أكثر مما يحتمل.

متى تستخدم المقاومة صواريخها؟

ضمن القضايا التي يجب أن تبحث هي: متى وكيف تستخدم المقاومة في غزة صواريخها؛ حيث لا يجب أن تبالغ بإمكاناتها، ولا أن تهدد بها، أو تستخدمها عند كل اقتحام للأقصى وعند كل مسيرة إعلام، وعند استشهاد قائد أسير أو حر، بل يجب وضع خطوط حمر واضحة، مثل عدم استخدام الصواريخ إلا ردًا على تغيير مكانة الأقصى بشكل جوهري وقانوني، أو ضم أراضٍ وتهجير واسع للسكان، أو ارتكاب مجازر، أو حملة كبيرة ضد الأسرى ومن أجل إطلاق سراحهم، بما في ذلك الجثامين المحتجزة في الثلاجات ومقابر الأرقام، ولمواجهة عدوان ضد القطاع، وقضايا أخرى كبيرة من هذا النوع.

تحويل القطاع إلى نموذج وقاعدة لقيادة المقاومة

هذا يعني ضرورة الحرص على شعبنا في قطاع غزة، وعلى المقاومة هناك؛ حيث يمكن العمل لكي يتحول القطاع إلى نموذج وطني سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي ديمقراطي تشاركي، يحترم حقوق الإنسان وحرياته، ويقوم بأحسن تنمية وتوزيع للموارد، ويجسّد حكمًا رشيدًا يحارب الفساد والمحسوبية، ويشهد انتخاباتٍ محليةً وقطاعية بشكل منتظم، ويكون قاعدةً وقيادة للنضال الفلسطيني كله، بما يعني ضرورة نقل جزء من القيادات والمؤسسات الوطنية له. وكل ذلك ضمن تصور متكامل إنقاذي، يجب العمل من أجل بلورته وتجسيده، وهناك مبادرة الإنقاذ الوطني التي طرحت من مجموعة من الشخصيات تقدم محاولة جدية في هذا الاتجاه.

الاستعداد للجولات القادمة

كما يجب الاستعداد لجولات قادمة يمكن أن يبادر إليها الاحتلال الذي لا يتقن سوى القوة والعدوان، ويعتقد خصوصًا في ظل الحكومة الحالية أن ما لا تنجزه القوة، يمكن أن ينجزه المزيد من القوة. وهنا، على المقاومة أن تظهر بصورة أكبر مسؤولية الحكومة الإسرائيلية عن العدوان، وتركز على ما يرتكبه من جرائم ضد المدنيين وضد الإنسانية، وليس كما يجري؛ إذ نُظهر بطولاتنا وقدراتنا، ونبالغ كثيرًا في إنجازاتنا أكثر بكثير من إظهار كوننا الضحية والطرف الأضعف.

ولا بد من الاستعداد للجولات القادمة من الآن، ولكن ليس ضمن الفهم السائد بأن المقاومة ندٌ للجيش الاحتلالي، ولها قدرة على خوض حرب نظامية أو شبه نظامية؛ حيث تستطيع المقاومة أن تفكر وتحضر للاعتماد بصورة رئيسية على المقاومة الشعبية والمقاطعة، وجعل المقاومة المسلحة في سياق الدفاع عن النفس، والتحضير للرد على الاغتيال باغتيال، وأن تكون مستعدة لتنفيذ عمليات في الضفة وفي غزة ومن غزة تحفظ عدالة القضية وتفوقها الأخلاقي ضد أهداف عسكرية استيطانية واحتلالية، والامتناع قدر الإمكان عن القصف العشوائي الذي لا يميز بين السكان الذين من بينهم نحو مليونَيْ فلسطيني، فأحد الضحايا في معركة ثأر الأحرار عامل فلسطيني قادم من غزة ويعمل في إسرائيل.

المتغيرات في العالم والإقليمي فرصة تاريخية

من المسائل التي يجب ملاحظتها أن الإقليم والعالم - وليس فقط إسرائيل – يتغيران، وهذا التغير في محصلته موضوعيًا لصالح الفلسطينيين، وهو كان من الكوابح على استمرار المعركة الأخيرة وتوسعها، فالإدارة الأميركية ضغطت على إسرائيل لوقف المعركة خشية من توسعها بضم أطراف فلسطينية أو إقليمية جديدة؛ لأن العالم مشغول في حرب أوكرانيا وتداعياتها، ولا يريد فتح حرب جديدة إذا توسعت المعركة، كما أن الإقليم بعد الاتفاق الإيراني السعودي برعاية وضمانة صينية يسير نحو التهدئة و"صفر مشاكل" وتسويات، ولا يرحب ولا يدعم حربًا جديدة على الأقل حتى يتضح أن التسوية الكبرى ستنجح أم لا؟

هذه المتغيرات فرصة تاريخية أمام الفلسطينيين، شرط أن يتمكنوا من أن يصبحوا طرفًا فاعلًا موحدًا قادرًا على توظيفها، وإلا سيتم نسيانهم وتجاوزهم عند رسم خريطة الإقليم والعالم الجديد.

أهم درس مما جرى أهمية الوحدة، طبعًا المقصود الوحدة الوطنية وليس الوحدة بلا وطنية، التي يمكن أن تتواصل بالوحدة الميدانية، ومن أسفل إلى أعلى. ولكن، من دون وحدة في الرؤية والمؤسسة الوطنية الجامعة والقيادة لا يمكن بلورة إستراتيجيات وطنية فاعلة قادرة على الانتصار، والوحدة يمكن أن تتجسد بضرب المثل، وفي البداية من قوى ومؤسسات وجمعيات وأفراد وتتوسع باستمرار، مع ترك الباب مفتوحًا لكل من يوافق على أسسها ومتطلباتها.