عشية يوم القدس الـ 56، وبالذات بينما توجد المواجهة القومية والدينية على المدينة في أوجها، يجدر بنا أن نتذكر أيضا واقعاً مقدسياً موازياً لا تكثر وسائل الإعلام من الكشف عنه: في الأيام العادية والتي هي اكثر بأضعاف من أيام المواجهات والعمليات، تخلق الحياة، المصالح، وحكمة الجمهور واقعا مقدسيا موازيا، من الحياة الطبيعية، وأنسجة الحياة المشتركة والتعايش بين اليهود والعرب. هذا الواقع الذي لا يغطى إعلاميا يفوق المظلة الباعثة على اليأس من خلال "الإرهاب" والعمليات والاضطرابات والجرحى والقتلى. الفصل هو ظاهرا المصلحة العليا للنزاع. الأسيجة والأسوار، تلك التي في النفوس وتلك الملموسة، والتي بالتأكيد تساعد على حماية أمننا، ترفع الحاجز الفاصل بين الناس. فهي تمنع اليهود والعرب من أن يتعرفوا الواحد على الآخر بشكل افضل. لكن رغم ذلك، كما أسلفنا توجد في القدس سلسلة طويلة من المجالات، الوضعيات، والأوضاع التي لا يمكن للأسوار والنزاع أن تتغلب عليها.
هذه أمور تافهة لدرجة أننا لا نعطي فيها الرأي. فإلى جانب واقع "المخربين" الذين يقومون بالدهس والطعن وأحداث إطلاق النار والتحريض من الحرم والاضطرابات والكراهية اللاذعة، يعمل منذ سنين كتفا إلى كتف أطباء وممرضات يهود وعرب يخدمون الجماعتين السكانيتين. قابلات عربيات يولدن يهوديات وبالعكس. أطباء يهود ينقذون حياة جرحى ومرضى عرب وبالعكس. في سنوات الـ"كورونا" بلغ هذا التعاون ذروته.
في صيدليات القدس أيضا، صيادلة عرب ويهود يخدمون السكان المتنوعين، والسواقون والمسافرون في خطوط المواصلات في المدينة هم من الجماعتين. ويبرز "الاختلاط" أساسا في القطار الخفيف. كما لا يوجد فصل في مراكز الترفيه والمطاعم – في المقاهي، في الأسواق، في المجمعات التجارية، وحتى في البلدة القديمة يوجد تعاون.
القدس الموحدة والمقسمة على حد سواء توفر واقعا من الاختلاط أيضا في مجالات البنوك، التجارة والعمل. قسم كبير من البسطات في سوق محنيه يهودا يديرها عرب. بعض أصحاب المحلات في حارة اليهود في البلدة القديمة هم عرب أيضا. وفي حدائق الألعاب وخاصة تلك التي على خط التماس، لا توجد فقط مواجهات أو عمليات بل أيضا ألعاب أطفال – عرب ويهود يستجمون معا الواحد إلى جانب الآخر. هكذا في حديقة الجرس، في حديقة الحيوانات، وفي عين ياعيل، وفي جمعية الشبان المسيحية، وفي غيرها من الأماكن.
كما ترتبط المدينة من خلال شبكات مشتركة من البنى التحتية. طرق مركزية وفرعية تجتازها طولا وعرضا وتربط بين كل أجزائها. خطوط القطار الخفيف، تلك المخطط لها وتلك القائمة، ستوثق قريبا اكثر فأكثر "الاختلاطات" الموحدة.
"الاختلاط" يشق الفصل في القدس في مجال التعليم أيضا: عدد اكبر بكثير من الشبان الفلسطينيين يسعون، اليوم، للتعليم في مؤسسات أكاديمية إسرائيلية، ويتقدمون إلى امتحان البجروت الإسرائيلي. الآلاف يسجلون للتأهيل المهني في المساقات وفي ورشات العمل التعليمية الإسرائيلية.
يخلق الاختلاط اقتصادا مشتركا وتعلقا متبادلا. مريك شتيرن، من معهد القدس لبحوث السياسة، وجد قبل بضع سنوات ان المعدل النسبي لعاملي شرقي المدينة في عدة فروع جعل قوة العمل هذه حاسمة في حجمها وأهميتها لاقتصاد المدينة. يشكل العاملون من شرقي القدس 66 في المئة من العاملين في فرع البناء و52 في المئة من العاملين في فرع المواصلات.
لا يوجد حب كبير بين الجماعتين. الاختلاطات هي في أغلبها نتيجة المصالح والواقع الذي يعود إلى 56 سنة. الغالبية الساحقة من سكان المدينة لا يتذكرون على الإطلاق واقع المدينة المنقسمة، لأنهم لم يكونوا ولدوا في حينه. لكن ربما من انعدام الغاية ستأتي الغاية أيضا. لعله ذات يوم لن تهدد هذه الاختلاطات وتخلق العمليات بل ستعرض أيضا تعايشا يكون حقيقيا وعديم المصالح في قسم منه على الأقل.
عن "إسرائيل اليوم"