خطوة تاريخية اتخذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل يومين بشأن الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية المستقلة، خلال فترة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول المقبل، وسط إدانات أميركية وإسرائيلية بهذا الشأن.
فرنسا الدولة الاستعمارية التي تقاسمت مع بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، ثروات الوطن العربي وقسمته أبشع تقسيم، ورسمت الحدود والحواجز وأشعلت شرارة النعرات الطائفية، هذه الفرنسا تنتصر اليوم للقضية الفلسطينية مع إعلان رئيسها نية بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
هذه خطوة ليست بسيطة من دولة كبيرة ومهمة في العالم، وهي تعبر عن التغيرات السياسية التي تشهدها باريس تجاه القضية الفلسطينية، وتأتي في إطار حراكٍ وزخمٍ دوليين يدعوان للاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
ثمة دول أخرى سبقت باريس في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهي دول أوروبية وغربية مثل السويد واسبانيا والنرويج، لكن أن تعلن فرنسا نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية فهذا حدث مهم ويتطلب وقفة أمامه، خصوصاً وأنها محسوبة على معسكر الدول العظمى والمؤثرة في المشهد العالمي.
هناك تحول يحدث في العالم بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وسياسة القتل والتدمير والتجويع بحق الفلسطينيين، لا سيما الأطفال منهم، وهذا التحول يشهد حراكات وانتفاضات شعبية تغير شيئاً فشيئاً من سياسات الدول، ويبدو أن فرنسا أخيراً انحازت لهذه الدول وتقدمت خطوة للأمام باتجاه الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
في السابق كان الموقف الفرنسي تجاه القضية الفلسطينية يتسم بالتوازن، ولا يرغب بالدخول في اشتباك سياسي مع إسرائيل، ولا حتى مع الولايات المتحدة التي تدعم الدولة العبرية، غير أن باريس بدأت تدرك أن الجمود السياسي وتعطل المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، تستدعي تحركاً باتجاه إعادة الزخم للقضية الفلسطينية.
هذا الموقف جسّده وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورني قبل عام، حينما قال إن بلاده مستعدة للاعتراف بدولة فلسطين في الوقت المناسب، وأن الخطوة الفرنسية لن تكون رمزيةً وإنما مرتبطة بأفعال تدفع باتجاه إطار سياسي يحرك المفاوضات.
بالتأكيد الموقف الفرنسي لا يرضي السياسة الإسرائيلية التي تحاول كل الوقت الاستئثار بملف المفاوضات، إما بتجميده أو جعله ثنائياً مع السلطة الفلسطينية وهي المتحكم فيه، ومن الطبيعي أن تصدر الإدانات الإسرائيلية وعلى رأسها رئيس الحكومة نتنياهو ووزير خارجيته بشأن رفض خطوة فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
أما لماذا تدين إسرائيل الإعلان الفرنسي، فهذا مردّه إلى أن الأولى ترفض إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، والدليل أن الكنيست صادق حديثاً على مقترح يدعو الحكومة لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وغور الأردن.
هذه المصادقة تأتي في سياق موقف إسرائيلي واضح من مسألة تهويد الضفة الغربية ومنع قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، والتحكم بالمفاوضات ومنع أي طرف آخر التدخل في مآلاتها، ولذلك تعتبر الخطوة الفرنسية عاملاً ضاغطاً يواجه سياسة أسرلة فلسطين التاريخية.
بالنسبة للموقف الفرنسي إذا واصل هذا الزخم تجاه الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بنفس الوتيرة، فذلك يعكس دعماً للقضية الفلسطينية، وقيمة مضافة قد تعني قيام دول أخرى مثل بريطانيا وإيطاليا باتخاذ نفس الموقف الفرنسي.
نعم الموقف الفرنسي مهم وينبغي دعمه والثناء عليه، لأنه يأتي من دولة أوروبية غربية عريقة تمتلك تأثيراً مهماً في المحيطين الإقليمي والدولي، ويمكنها إن صدقت وواظبت على هذا الموقف أن تحرك عجلة المفاوضات وتفرمل طموحات إسرائيل بشأن تصفية القضية الفلسطينية.
هذا الموقف يحتاج إلى زخم ودعم وحراك عربي في الأساس، حتى تتحرر فرنسا شيئاً فشيئاً من الضغوطات الأميركية والإسرائيلية التي تصر على طريق المفاوضات لحل الدولة الفلسطينية، ومعلوم أن خيار المفاوضات ظل مطروحاً بعد «أوسلو» عام 1993 مباشرة ولم تقم الدولة الفلسطينية الموعودة.
إسرائيل تخاف من فرنسا لأن الثانية إذا التزمت بوعدها واعترفت بالدولة الفلسطينية، فهذا يعني أن بريطانيا قد تتخذ نفس الخطوة وتنجر إليها دول أخرى مثل أستراليا، وبالتالي لن يكون أمام الدولة العبرية سوى قبول واقع قيام دولة فلسطينية مستقلة.
يجب أن تفتح الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عين المجتمع الدولي باتجاه إيجاد حل شامل للقضية الفلسطينية، لا تتوقف فقط عند وقف الحرب والسلام، لأن التجارب أثبتت أن الحلول الجزئية أو الترقيعية عبارة عن قنابل موقوتة قد تعيد دائرة الصراع إلى السطح من جديد.
دعم الموقف الفرنسي للاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، يتطلب مجهوداً عربياً قبل أن يكون دولياً، حتى تستعيد القضية الفلسطينية الزخم الدولي باتجاه نصرة شعبها الذي قضى سنوات طويلة في دفع تكاليف باهظة، أملاً في تثبيت حق تقرير المصير والانعتاق من غل الاحتلال.