كما هو الحال بعد كل من الحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، تجدد الجدل بشأن تقييم نتائج معركة الأيام الخمسة الأخيرة في أوساط كل من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وخلافًا للجانب التعبوي الذي يخيم على تحليلات الخبراء والكتاب من كل طرف أثناء المعركة، تميل هذه التحليلات بعد انقشاع غبار المعركة نحو استخلاص الدروس من الإخفاقات أكثر من الإنجازات.
في إسرائيل، تباهى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وعدد من الوزراء والقادة العسكريين والأمنيين باستعادة الردع في مواجهة قطاع غزة، من خلال ما حققه عنصر المباغتة في افتتاح المعركة باغتيال ثلاثة من قادة سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي. كان هذا أشبه بخطاب النصر الذي راج يوم الأحد الفائت، خلال أول 24 ساعة بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار برعاية مصرية. وذهب نتنياهو إلى الادّعاء بأن الردع لا يقتصر على حركة الجهاد الإسلامي التي استهدفت بالهجوم العسكري، بل يشمل حركة حماس التي لم تشارك في المعركة؛ لأنها لا تزال مردوعة منذ حرب أيار 2021، حسب وصفه.
الردع والمعادلة الصفرية
لكن في اليوم التالي، عاد الإعلام الإسرائيلي ليعج بالتحذيرات على لسان كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين من مواجهة عسكرية أشد عنفًا قد تندلع مع فصائل المقاومة في قطاع غزة في غضون أيام، على خلفية مسيرة الأعلام في ذكرى "توحيد القدس" منذ احتلال شطرها الشرقي في حرب حزيران 1967. وهو تناقض في التوصيف الرسمي للردع المتحقق كنتيجة للمعركة يعيد التذكير بسيل الانتقادات والتقييمات السلبية التي صدرت عن معظم المحللين الإسرائيليين العسكريين والسياسيين بشأن العودة إلى المعادلة الصفرية بعد كل من الحروب الستة التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة منذ نهاية العام 2008. وركزت اثنتان منها على استهداف حركة الجهاد الإسلامي، قبل أن تضاف إليها الحرب السابعة الأخيرة؛ أي الثالثة التي تستهدف الحركة ذاتها أيضًا.
وقال يوآف ليمور، المحلل العسكري لصحيفة "إسرائيل اليوم"، إن إسرائيل سوف تواصل إدارة الوضع مع قطاع غزة من خلال جولات قتالية قصيرة تحقق بينها فترات من الهدوء. ونصح "من يثرثر في الجانب الإسرائيلي بشأن تغيير المعادلة، بأن يعود إلى البداية. فخلال الأعوام الثلاثة والنصف الماضية، هذه هي المرة الثالثة التي تكرر فيها إسرائيل العملية عينها؛ ما يعني أن مفهوم انصياع حركة الجهاد الإسلامي إلى الردع قصير ويحتاج إلى تقوية دائمة".
وبرأي الجنرال احتياط أودي ديكل، المدير العام السابق لمعهد دراسات الأمن القومي، حسب تحليل نشره المعهد، "من الصعب تحديد ما إذا كان الردع الإسرائيلي قد تمت استعادته". ففي الجولات الثلاث ضد "الجهاد الإسلامي" منذ آب 2019، بدأت إسرائيل باغتيالات لقادة الحركة، والرد على إطلاق الصواريخ على الجبهة الداخلية الإسرائيلية باعتراضات وقائية، والسعي إلى اختصار الجولة من أجل السيطرة على حدود المعركة وعدم تدهورها إلى مواجهة مباشرة مع "حماس". وقال "كانت الجولات الثلاث حملات ردع بلا هدف سياسي. وكان تأثير العمليتين السابقتين قصيرًا. ومن المحتمل أن يكون تأثير العملية الأخيرة كذلك".
مكاسب تكتيكية
على الرغم من تواضع الإنجازات على المستوى الإستراتيجي، حقق نتنياهو مكاسب عدة على المستوى التكتيكي. فهو أولًا نجح في توجيه ضربة قاسية لحركة الجهاد وقدراتها العسكرية، لا سيما باغتيال ستة من أبرز قادة جناحها العسكري، مع النجاح في تحييد "حماس" عن الانخراط المباشر الواسع في المواجهة. وثانيًا، حافظ على تماسك ائتلافه الحكومي، من خلال استرضاء الوزير المتطرف إيتمار بن غفير بالاستجابة لابتزازه المتعلق باستئناف الاغتيالات في غزة، مقابل حضوره اجتماعات الحكومة، وعودة نواب حزبه للمشاركة في جلسات الكنيست استعدادًا لتمرير الموازنة العامة. وثالثًا، تمكّن من ترميم شعبية حزب الليكود وزعيمه التي تراجعت لصالح حزب "المعسكر الوطني" وزعيمه بيني غانتس. ورابعًا، تمكن من حرف اهتمام الشارع نحو معركة غزة، وأجبر المعارضة على تعليق احتجاجاتها ضد خطته بشأن التعديلات القضائية، بل جرها للوقوف خلفه في تصدره لإدارة المعركة.
وأظهرت نتائج استطلاعات عدة للرأي العام الإسرائيلي تعزز شعبية حزب الليكود ونتنياهو، كما قيّمت غالبية الجمهور أداءه بالجيد خلال المعركة. غير أن غالبية الإسرائيليين يرون أن نتنياهو شن الهجوم بسبب تراجع قوة حزبه، كما أن المعركة لم تغيّر معادلة الردع مقابل الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وأن المواجهة المقبلة هي مسألة وقت.
"عقيدة ضاحية" مصغرة
على الجانب الفلسطيني، لا تزال الذاكرة الشعبية تعدّ العملية التي أطلقتها إسرائيل في تموز 2014 تحت اسم "الجرف الصامد"، قاعدة للمقارنة بالحروب اللاحقة. فقد استمرت المواجهة حينها 51 يومًا، تعرض قطاع غزة خلالها إلى أكثر من 60 ألف غارة أوقعت خسائر بشرية فادحة في صفوف المدنيين، وتسببت بتدمير كلي وجزئي لعشرات الآلاف من المنازل والمنشآت.
ولم تكن هناك تقديرات على المستوى الإسرائيلي قبل هذه الحرب تشير إلى أن "حماس" والفصائل الأخرى كانت معنية بحرب شاملة. بل استند قرار التصعيد إلى سوء تقدير مفاده أن فصائل المقاومة سوف تلتزم سياسة الرد المحدود من دون الانجرار إلى مواجهة واسعة. وبحسب تقديرات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فإن ما حصل كان نتيجة "دينامية التصعيد"، التي قادت إلى تطبيق "عقيدة الضاحية" بوصفها عامل ردع للضغط على السكان المدنيين في قطاع غزة، في إشارة إلى تدمير الضاحية الجنوبية في بيروت خلال حرب لبنان الثانية العام 2006.
في المعركة الأخيرة، حكم سوء التقدير لرد حركة الجهاد الإسلامي على استهداف قادتها سلوك المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل. فقد قدّرت الأجهزة الاستخبارية والعسكرية أن الرد سيكون تقليديًا ومحدودًا في نطاقه الجغرافي والزمني. ولكن رد "الجهاد" الذي طال مناطق ضمن مساحة تبعد نحو 60-70 كيلو مترًا عن غزة أربك القيادة العسكرية والجبهة الداخلية الإسرائيلية. وحكمت دينامية التصعيد مسار المعركة، بشكل أظهر أن الجيش الإسرائيلي عاد إلى تطبيق شكل مصغر من "عقيدة الضاحية" بوصفه عامل ردع للضغط على السكان المدنيين، والتأثير في الحاضنة الشعبية لحركة الجهاد. فقد تم تدمير 93 وحدة سكنية بشكل كلي، فيما أصبحت 128 وحدة سكنية أخرى غير صالحة للسكن، إلى جانب تضرر 1820 وحدة سكنية بشكل جزئي.
وقفة تقييم فلسطينية
في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى، ينخرط بعض النخب الفلسطينية في جدل حول نتائج المعركة بين معادلة الانتصار والانكسار. ولكن الجمهور الفلسطيني عمومًا يرى أن تصدر حركة الجهاد الإسلامي المواجهة العسكرية، بمشاركة عدد من الفصائل، في ظل إحجام "حماس" عن الزج بقدراتها العسكرية الكبيرة في المعركة، يعدّ إنجازًا كبيرًا مع استمرار إطلاق الصواريخ والقذائف حتى الدقيقة الأخيرة لوقف إطلاق النار؛ أي إن الرأي العام الفلسطيني يرى أن إسرائيل فشلت في استعادة الردع، وأن الحرب على قطاع غزة لم تحسم بعد، لا سيما أن "الجهاد" لم تستنزف كامل قدراتها العسكرية، في حين أن قدرات "حماس" لم تمس.
وعلى الرغم من الدعم الشعبي الواسع لرد المقاومة، هناك حاجة لعملية تقييم شاملة لا تتجاهل في محصلتها أهمية التوافق على إستراتيجية فلسطينية موحدة في مواجهة المخططات الإسرائيلية. ويفترض أن تنطلق هذه العملية أولًا من تشخيص طبيعة الأهداف التي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تحقيقها، سواء في جولات قادمة في قطاع غزة، أو باستمرار إعطائها الأولوية للضفة الغربية، في ظل مؤشرات عن استعدادات لشن عملية واسعة للقضاء على مجموعات المقاومة المسلحة، بدءًا بنابلس وجنين وطولكرم في الشمال، مع إمكانية توسيعها إلى المناطق الأخرى.
ويجدر أن يشمل التقييم الفلسطيني ثانيًا، أداء مختلف الأطراف الفلسطينية، سواء من حيث مدى التوافق على إستراتيجية موحدة بين الفصائل المنضوية في غرفة العمليات المشتركة، بشكل يحبط أي محاولة للاستفراد بفصيل معين، وما الخطوط الحمر التي تستوجب ردًا مشتركًا، وكيف، ومتى؟ أو من حيث موقف القيادة الفلسطينية على مستوى منظمة التحرير والسلطة التي ظهرت وكأن الأمر لا يعنيها، من دون أن تبادر بالحد الأدنى إلى طرح فكرة تشكيل وفد فلسطيني موحد للتوجه إلى القاهرة للتفاوض حول شروط وقف إطلاق النار، كما حدث في حرب 2014.