يوماً بعد يوم، تتأكد وتتعمق عنصرية إسرائيل، تزامناً وترافقاً مع تعمق يمينها المتطرف، وتزايد تأثيره في قرارات الحكومة، والسياسات العامة للدولة، وإذا كانت إسرائيل على مر السنين حاولت أن تنفي عن نفسها صفة العنصرية_ خاصة خلال الفترة ما بين عامي 1948_1967، حيث أنها كانت خلال تلك الفترة في حالة حرب مع كل الدول العربية، ومع معظم الدول الإسلامية، وكانت تخضع لاعتبارات الحرب الباردة، حيث ما كان بإمكان الغرب، ومنه أميركا أن يدفع عنها صدود العالم كله، في حالة سفور صفتها العنصرية، في الوقت الذي كان فيه العالم بأسره يحارب نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا_ فإنها تبدو حاليا غير معنية بإخفاء تلك الحالة، كما كانت تفعل من قبل على الأٌقل.
والحقيقة أن الأمر لم يكن يعود لذلك السبب فقط، فإسرائيل لم تكن قد احتلت كلاً من القدس والضفة الغربية وقطاع غزة بعد، وكانت بينها من جهة وبين كل من الأردن ومصر من الجهة الأخرى اتفاقيات هدنة، منذ العام 1948، حيث اعتبرت القدس والضفة الغربية، خاصة بعد مؤتمر أريحا جزءاً من الأرض الأردنية، فيما اعتبرت حدود قطاع غزة مع إسرائيل حدود اتفاق الهدنة مع مصر، أي حدوداً أمنية بين دولتين، والمهم أن من هم من غير اليهود، داخل دولة إسرائيل كانوا أقلية، لا تتجاوز نسبتهم 20%، قامت بتقسيمهم إلى عرب ودروز، مسلمين ومسيحيين، سكان النقب وسكان المثلث والجليل، ولأنها منحتهم حق المواطنة، ذلك أنه لم يكن بمقدورها أن تفعل غير ذلك، وهم صمدوا في وجه التهجير والمجازر التي ارتكبت من أجل تحقيقه، لكن ولأسباب متعلقة بالسكان من مواطني الدولة من الفلسطينيين العرب المسلمين والمسيحيين، أغلقت أبواب المؤسسات ولم تسمح بتولي أي فلسطيني أي منصب تنفيذي مهم، خاصة على المستوى الوزاري.
بعد العام 1967، اختلف الأمر، وذلك من اتجاهين: الأول أن المجتمع الدولي اعتبر الأرض المحتلة عام 1967، كلها أرضا محتلة، وهي سيناء والجولان، القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، حتى إسرائيل نفسها لم تقل غير ذلك، وسرعان ما تقدمت الولايات المتحدة نفسها بمشروع روجرز، المستند للقرار الأممي 242، الذي نص على تبادل الأرض مقابل السلام، أي الأراضي المحتلة عام 1967 مقابل توقيع اتفاقيات السلام بين الدول العربية وإسرائيل، لكن إسرائيل عند المحك العملي، لم تكن تقبل بأكثر من الحكم الذاتي للشعب الفلسطيني، أي أنها تريد ضم الأرض دون سكانها، ولهذا فإن كل محاولات تحقيق السلام، والتوصل لحل سياسي وسط، قد فشلت، وآخرها بالطبع حل الدولتين وهو مقترح أميركي بالأصل، وإسرائيل التي لا يمكنها أن تحتمل ضم نحو خمسة ملايين فلسطيني هم سكان القدس والضفة وغزة، لأنهم مع الفلسطينيين من مواطنيها، سيشكلون معا ما يقارب عدد سكانها اليهود الإسرائيليين.
ولأن إسرائيل قامت على أساس أنها دولة لطائفة بعينها، وهذا مبدأ عنصري، فإنها تضطر إلى تعميق ممارساتها وسياساتها العنصرية، يوما بعد يوم، طالما أصرت على الاحتفاظ بالأرض الفلسطينية المحتلة، واحتلالها للأرض الفلسطينية، أي كامل ارض دولة فلسطين، مستمر منذ خمسة عقود ونصف، ورغم أن هذا يدفع المجتمع الدولي للتساؤل حول إن كان الاحتلال الإسرائيلي وهو مستمر هكذا ما زال ينطبق عليه مبدأ الاحتلال المؤقت أم لا، إلا أن بقاء الحال هكذا تضطر معه إسرائيل إلى الاستمرار في التعامل مع الشعب الفلسطيني بشكل عنصري وقهري، لأن الاحتلال يضيق على حرية الشعب الفلسطيني في الحركة والتنقل، في تحقيق الذات والعيش بكرامة، وممارسة حقوقه السياسية في الانتخابات السياسية الدورية، وفيما لا يعد ولا يحصى من الحقوق الشخصية والعامة.
أما ضم الأرض، فيعني أن تضطر إسرائيل إلى حشر الفلسطينيين في معازل، وفي ممارسة أشكال من القهر، وفي السفور العنصري التام، وهي لا يمكنها أن تضم الأرض والسكان، إلا إذا أقدمت على إقامة نظام الفصل العنصري بشكل تام، أي اعتبرت الفلسطينيين مجرد مقيمين على أرض دولة إسرائيل، بعد ضم الأرض المحتلة، أي لا حقوق سياسية لهم.
باختصار يمكن القول بأن إسرائيل لا يمكنها أن تكون دولة ديمقراطية أو مدنية مع الاحتلال، فإما دولة مدنية ديمقراطية، وهذا يفرض عليها أن تنزع عن كاهلها ثوب الاحتلال البغيض، وإما أن تبقى مصرة على احتلالها، وهي هنا ستكون بين خيارين: البقاء في الوضع الحالي، وهذا يبقي مقاومة الشعب الفلسطيني حية، ويبقي على المجتمع الدولي اعتبارها، في أدنى مستوى، إن لم تكن محتلة فهي ليست أرضاً إسرائيلية، أو أرضاً متنازعاً عليها، لا يقبل العالم تحديد مصيرها بشكل أحادي الجانب، ويقبل أن يتم تحديد الحدود بين الطرفين وفق اتفاق ثنائي، والخيار الآخر، هو أن تقدم إسرائيل على حل من جانب واحد، وهو ضم الأرض دون السكان، ولأن السكان سيبقون في وطنهم وعلى أرضهم، فإن الأرض ستحترق حينها، نظراً لأن قرار الضم سيكون حاداً وصارخاً، ومن الصعب على العالم كله أن يستوعب إصداره فصلا عن قبوله، أيا تكون الظروف الدولية والإقليمية.
لكل هذا نقول، بأن الاحتلال حقيقة يعمق العنصرية الإسرائيلية، ويعزز التطرف فيها، ذلك أن الحفاظ على الاحتلال يتطلب استخدام القوة الحديدية، أي الزج بغلاة التطرف للمناصب الوزارية، وهذا ما حدث في ظل الحكومة الحالية، ولعل آخر ظواهر العنصرية الإسرائيلية تتجلى في المفارقة التي لا تظهر إلا في دولة عنصرية بتمام المعنى، في أن تعد إسرائيل ثلاثة آلاف وثلاثمائة جندي وشرطي، لحماية ورعاية مسيرة الأعلام التي يقوم بها المتطرفون، حيث يتطاولون على الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين، وتصدر في نفس الوقت قرارا بحظر رفع العلم الفلسطيني، بل ويتضمن مشروع القرار الذي أقر بالقراءة الأولى في الكنيست، قمع الاحتجاجات والتظاهرات التي ترفع العلم الفلسطيني.
ليس هنالك من عنصرية وصلت إلى هذا الحد، والعلم الفلسطيني هو علم دولة يرفرف في الأمم المتحدة، وفي الغالبية العظمى من دول العالم، بما فيها باريس، لندن، برلين، واشنطن، وهو ليس علم جماعة عرقية أو مجموعة متطرفة، ولو كان الحديث يدور عن علَم حزب أو فصيل فلسطيني، لربما كان الأمر متوقعاً، ولكن أن يتم حظر علَم دولة فلسطين، ومعاقبة من يرفعه، فهذا أمر مستغرب، ورفع العلَم يكون عادة في سياق مسيرات سلمية، فهو أولاً وأخيراً ليس بندقية ولا قنبلة ولا حتى سكينا، والغرب الديمقراطي يستغرب من دول أو كيانات تمنع حق المثليين في رفع أعلامهم الخاصة، حتى في مجتمع محافظ، فكيف بهذا الغرب أن يقبل إقدام الكنيست الإسرائيلي على مجرد التفكير في سن مثل هذا القانون الاحتلالي العنصري، الذي يؤكد بأن إسرائيل العنصرية غير قابلة للتعايش في الشرق الأوسط.
والحقيقة أن حزب الليكود ورئيسه بنيامين نتنياهو، مع عودة الكنيست للانعقاد بعد إجازة الأعياد، كان أمام استحقاق العودة لطرح مشروع قرار وزير العدل الخاص بالمحكمة العليا ومكانة القضاء وتعيينات القضاة في المحكمة العليا، وهذا يعني إعادة صاعق التوتر الداخلي، لذا فضل الليكود وزعيمه، أولاً العدوان على غزة، لإرضاء إيتمار بن غفير وإشباع نهمه الفاشي والتعويض له بهذا القانون عن عدم طرح خطة وزير العدل الخاصة بالقضاء، وهكذا تمضي إسرائيل قدماً، أسيرة التطرف والعنصرية، إلى مصير مؤكد، وهو أن عدوها في نهاية المطاف لن يكون الفلسطينيين فقط، بل كل الشرق الأوسط وكل العالم، الذي لن يقبل دولة مارقة، تظل عضواً في المجتمع الدولي، وهي دولة احتلال وعنصرية في نفس الوقت.