لثلث قرن ومنذ قمة آب العام 90، كانت القمة العربية تكتب نهايات المؤسسة التي أريد لها يوماً ما أن تشكل قطباً عربياً مزاحماً على المستوى الدولي بما تمتلكه الأمة من إمكانيات، وإذ بها تكتب بدايات التشظي العربي.
ولأكثر من ثلاثة عقود لم تسجل تلك القمم سوى حضور باهت بدا في شدة ضعفه، وسط إقليم تراجع فيه الحضور العربي لصالح ثلاث قوى غير عربية تعبئ الفراغ.
قوى تتنازع تركة الرجل المريض المثقل بهمومه وصراعاته والتي بلغت ذروتها في العقد الأخير، ليس فقط لجهة الحروب الأهلية التي مزقت البلدان، بل لجهة الصراعات بين العرب وتشكيل اصطفافات متنافسة بعضها استسهل التحالف مع الخارج ضد الشقيق العربي، وكانت الهيبة العربية هي الضحية.
ليس من المبالغة القول إن القمة التي تنعقد اليوم في جدة هي الأهم منذ ثلث القرن سواء لجهة نهاية العقد الأسود الذي لطخ الإقليم والمصالحات العربية أو حتى لجهة المصالحات الإقليمية التي تتحرك فيها الرياض بقوة لافتة، بل لجهة المناخات الشاملة التي تنعقد خلالها تلك القمة، فهي تنعقد وسط عالم يشهد تغيرات هائلة في العلاقات الدولية وموازين القوى واهتزازات كبرى للتحالفات القديمة وحكومة إسرائيلية سافرة التطرف تعلن كراهيتها للعرب وحرباً كبرى تدور على الأراضي الأوروبية.
وفرت تلك الحرب لحظة تاريخية تمكنت السعودية من التقاطها لتشكل مقدمات قوية لهذه القمة تجلت في زيارة الرئيس الأميركي بكامل ضعفه الصيف الماضي، عندما لم يتمكن مبعوثوه من إقناع السعودية بتخفيض إنتاج النفط ليجر أقدامه إلى عاصمتها ويفشل، فيما يلقى الرئيس الصيني استقبالاً يليق بصديق كبير، تلك لحظة تاريخية تمكن من التقاطها شاب من الجيل الجديد في السعودية، وما بين لقطة «التسول العربي من واشنطن» وبين رئيس أميركي جاء للتسول من العرب جرت مياه كثيرة في نهر السياسة.
واضح أن مصادفات التاريخ تلعب لعبتها في رسم أقداره، فالقمة في السعودية التي تبدو كأنها تقلع بشكل أكثر تسارعاً من الوتيرة التي عرفتها السياسة السعودية المتثاقلة تحدث تغيراً في العلاقات العربية، وعودة سورية وعلى المستوى الإقليمي تنجح في تهدئة التوتر مع الجار الإيراني اللدود، وعلى المستوى الدولي تشهد تنويعاً في علاقاتها مع عواصم ثقيلة منافسة للحليف التاريخي كبكين وموسكو.
في ثلث القرن الماضي كانت القمم تنعقد وسط منافسات وأهداف قد تباعدت وتحالفات قد تبعثرت وولاءات قد تشرذمت، وعلى وقع زميل عربي لهم يذهب لحبل المشنقة، وزعيم آخر يحاصر في مقاطعته، وزعيم آخر تلاحقه طائرات الناتو الذي قادته دولة شريكة في القمة، وبقدر ما كانت تلك عقوداً ظلامية في تاريخ القمة العربية بقدر ما أحدثت حالة الوهن العربي فراغاً محزناً للسياسة العربية.
إنها فرصة لبناء محور عربي وسط تبدد المعايير القديمة والاهتزاز الذي أحدثته الحرب الروسية الأوكرانية، وقبلها جائحة اجتاحت البشرية هزت الاقتصادات العالمية لتوفر كلتاهما الفرصةَ الجائحة للمال والحرب للنفط أن يتقدما كأبرز الأسلحة، ومع وجود قيادة شابة تمكنت من تحويل ممكناتها إلى سياسة كان لا بد أن نرى هذا الخيط القادم من الرياض.
قبل نصف قرن في زيارته للمنطقة بعد حرب أكتوبر محاولاً البحث عن تسوية بين العرب وإسرائيل كان هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الأشهر يحمل في حقيبته ورقة من صفحة واحدة كتبها شاب مغمور في الخارجية الأميركية هو ريتشارد هاس بعد أن طلب أوراقاً تعينه على التعامل مع المنطقة وفهم مفاتيحها، وكانت بعنوان «الخيمة والسوق» وهي شديدة الأهمية حتى اللحظة، وفي جزئية الخيمة أن هناك شيخاً يجلس في خيمة هو وحده المقرر، عليك أن تمدحه كثيراً أمام مساعديه لتأخذ منه ما تشاء من تنازلات.
في طريقه للمنطقة وقبل الوصول للقاهرة عرج وزير الخارجية على المغرب ليأخذ نصيحة الملك الحسن الثاني في الورقة ليقول له الملك: «في العالم العربي هناك خيمتان وشيخان أحدهما في القاهرة والآخر في الرياض، لا تخطئ متصوراً أنه يمكن تجاهل السعودية في العالم العربي».
وهكذا كان، فقد كان للتحالف السعودي المصري ما بدا أنه نذر لقطب عربي يشكل ثقلاً في موازين القوى الدولية آنذاك، وهي اللحظة التي شهدت فيها تكامل القوتين العربيتين الأكبر مصر بجيشها وعمقها التاريخي وثقافتها، والسعودية بنفطها ومالها، فقد تمكنتا آنذاك حين تكاملت القدرات من صناعة واقع عربي استدعى كيسنجر زاحفاً لولا أن تمكن بدهائه المعروف من شق الصف العربي لأصبح العرب قطباً دولياً.
تعود اللحظة بشكلها المختلف وترسم السعودية مدججة بإمكانياتها وحركتها مشهد المنطقة، ولكنها تخطئ إذا اعتقدت أنه دون مصر وإمكانياتها الكبيرة يمكن لأي قطب عربي أن يتمكن من الحضور في عالم لم يستبعد السلاح تماماً. فالقاهرة هي قوة المركز، وفي نفس السياق أيضاً تخطئ دول الخليج الصغرى إذا اعتقدت أنه يمكن لها أن تشكل منافساً للسعودية بعد أن سجلت بعض الحضور في الإقليم خلال العشرية السابقة التي تراجع فيها الحضور السعودي والمصري تاركاً لها ما يكفي من المساحة. فقد آن الأوان أن تتواضع في طموحاتها لصالح محور ثنائي القيادة لما تمتلكه الدولتان من مقومات حقيقية وليست وهمية.
الفلسطينيون الذين يتطلعون للقمة العربية دوماً أكثر تفاؤلاً بالتغيرات الجارية وبمحور عربي إن تمكن من استعادة قوته، وكما أنهم مدينون لدول الخليج بالكثير من المساعدات فدول الخليج مدينة للفلسطينيين بهذه الإمكانيات. فلولا الصراع مع إسرائيل لظل النفط بسعره الزهيد الذي لا يؤهل لبناء دول، فقد شهد طفرته الكبرى بسبب الصراع، وكانت القفزة في حرب 73. لكن الفلسطينيين هذه المرة لا ينتظرون مساعدات المال فقط، بل إن قمة عربية بهذا الزخم الذي غاب لعقود وهي تستعيد قوتها تمكنها من الوقوف في وجه الحكومة الإسرائيلية السافرة، والتي اقتحمت بالأمس أحد أقدس مقدساتهم والتي تدعمها واشنطن التي جاء رئيسها إلى مكان القمة في تموز الماضي متسولاً أو متوسلاً.