القمّة العربية نحو مُؤشّرات جديدة واعدة

BGh5Q.jpg
حجم الخط

بقلم طلال عوكل

 

 

 

نحو اثنين وثلاثين بنداً تضمّنها البيان الختامي للقمّة العربيّة الثانية والثلاثين في جدّة.
البيان الختامي، أو ما يمكن اعتباره قرارات صادرة عن القمّة، اشتمل على إحاطة واسعة وشاملة لمعظم الملفّات التي تعاني منها الأمّة العربيّة منذ ما يزيد على عقدٍ من الزمان.
تتيح هذه الإحاطة الشاملة، المجال لتقييم عام، لدور هذه القمّة إزاء التحوّل، نحو الاهتمام، بالمصالح الوطنية والقومية العربية بعد أن كانت هذه المصالح لفترة طويلة جدّاً من الزمن، تخضع لآليات الهيمنة الأميركية على حساب المصالح القطرية والقومية العربية.
تقييم مخرجات القمّة، يستدعي المرور على مؤشرات مهمة سبقت انعقادها، ابتداء من السياسات العربية تجاه مسألة مستوى إنتاج النفط، مروراً بالاتفاق السعودي الإيراني في الصين، إلى المصالحات العربية التي اقتضت وسمحت، بعودة سورية إلى الحضن العربي بعد تغييب امتدّ لاثني عشر عاماً.
إن كانت هذه هي المحطّات الأساسية التي جرت في مياه النهر العربي مؤخراً، فإنّ ثمة مؤشّرات أخرى تتصل بكيفية التعاطي مع الحرب الدائرة في أوكرانيا، وعدم انصياع العرب لرغبة الولايات المتحدة، التي ضغطت لانضمام العرب إلى نظام العقوبات ضد روسيا.
يمكن اعتبار تلك المؤشرات التي سبقت القمة، وانعكست في قراراتها وبيانها الختامي، أنها بداية صحوة عربية نحو استعادة الهوية القومية العربية، وإعطاء الأولوية للمصالح القومية والقطرية، بما يستدعي ذلك من مغادرة الالتحاق بمربّع السياسة الأميركية تدريجياً، في اتجاه شراكات جديدة ومتنوعة، أثبت واقع التاريخ أن أميركا وحلفاءها، كانوا بعيدين عنها.
لا شكّ بأن ثمة إدراكاً عربياً جماعياً بالعموم، لطبيعة التغيّرات الدولية وتوازنات القوة، بما في ذلك صعود قوى عالمية جديدة، ونحو التخلص من نظام القطبية الأميركية إلى نظام دولي متعدّد الأقطاب، يتيح المجال للعرب لتعديل صورتهم، ومكانتهم في مجريات واتجاهات الأحداث الدولية.
لا أُجازِف إن قلت إن ثمة إرادة عربية جماعية، لمغادرة لغة الخطابة التي تتناقض مع الأفعال، وربما تجاوز شعار التضامن العربي، الذي كان يغطي على تناقضات عربية، جعلت البعض يقاتل ويناصب العداء البعض الآخر.
إزاء المؤشرات المفصلية التي أشرنا إليها، في زمن ما قبل القمة كانت الولايات المتحدة، تعبّر عن استيائها، وكانت إسرائيل، أيضاً، تنظر بسلبية وخوف من تلك التطورات.
الولايات المتحدة، ترى في عودة سورية إلى الحضن العربي، موقفاً وسلوكاً خاطئاً، وأعلنت أنها لن ترفع العقوبات ولن تغيّر من سياستها، يلحق بها الاتحاد الأوروبي، ولكن كل هؤلاء، لا يجرؤون على تحدّي الموقف العربي الجماعي الذي عبّرت عنه القمّة، وبضمنها سورية.
يمكن الاعتقاد أن ثمة تغييراً في آليات التعاطي مع الملفات والأزمات التي كانت تقتصر على تشكيل لجان، تشكل مهرباً من المعالجة الجدية لأي منها، لأنها لا تستند إلى قرارات واضحة ومحدّدة. هذه المرة اتخذ العرب قرارهم ثم شكلوا لجاناً لكل ملف، كآلية يمكن أن تعطي لهذه اللجان معنى حقيقياً وجدياً في اتجاه المعالجة.
ثمة، أيضاً، ما يلفت النظر في هذه القمة، التركيز على خطاب وموقف يتعلّق بمواجهة التدخلات الخارجية، التي كانت ولا تزال سبباً رئيساً في خلق وتعميق واستدامة هذه الملفات.
لم يكن متوقعاً بطبيعة الحال التصريح، بهذه القوى ودورها، من الولايات المتحدة إلى إسرائيل مروراً بقوى خارجية أخرى إقليمية ودولية.
قد يؤشّر ذلك على إرادة عربية موحّدة، تعكس وعياً بطبيعة ومآلات وأهداف التدخلات الخارجية، والبدء بالاعتماد على العنصر العربي لمعالجة هذه الملفات انطلاقاً من المصلحة العربية.
إن كانت هذه المؤشرات بداية صحوة عربية، فإنّ قادم الأيام من شأنه أن يستظهر على نحو فاقع، طبيعة المخاطر ومصادرها إزاء قضايا لا تبدو اليوم أنها ضمن الأولوية.
في المقدمة موضوع الأمن الغذائي وأمن المياه، الذي تهدّده أثيوبيا، ومن خلفها إسرائيل، التي لا تكف عن التلاعب بوحدة السودان، لتعزيز نفوذها وسيطرتها على دول مجرى النيل والاقتراب المباشر من سواحل البحر الأحمر، وإقامة قواعد عسكرية وأمنية تهدد مصر والسعودية.
إزاء الملف الفلسطيني، من الصعب الحديث عن اختراق واضح للقمة حتى لو أجمع العرب على أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية، بالإضافة إلى الخطاب المتكرر بشأن التمسك بـ «مبادرة السلام العربية»، ودعم الشعب الفلسطيني، وإدانة سلوك الاحتلال والاستيطان، يتناقض الخطاب العربي حول كل هذا الملف، على أهمية الخطابات والصيغ التي تضمنها البيان الختامي، يتناقض ذلك مع سلوك بعض الدول العربية التي نسفت «المبادرة العربية» حين اختارت طريق إقامة «اتفاقيات أبراهام» مع إسرائيل.
لا يكفي التركيز على الحقوق الفلسطينية في الدولة وعاصمتها القدس على الأراضي المحتلة العام 1967، ذلك أن التطبيع قبل التوقيع ومن دون أي ضمانة للتوقيع، يجعل عملية التطبيع عاملاً معطّلاً لـ «المبادرة»، فضلاً عن أن الدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، لم تفعل شيئاً لكبح السياسة الإسرائيلية الاحتلالية والفاشية العنصرية.
فضلاً عن ذلك، لا يبدو أنّ القمة تسعى لتجاوز بخلها في دعم الشعب الفلسطيني، وتفعيل «شبكة الأمان» من أجل تخفيف الضغط الإسرائيلي والأميركي والأوروبي على السلطة الوطنية الفلسطينية في موضوع المال.
واضح أنّ ثمة إمكانية لتوقع فعالية اللجان التي تتعلّق بالملفات الأخرى، ما عدا اللجنة التي تتعلّق بالقضية الفلسطينية، فتلك خبِرها الفلسطينيون كثيراً، من دون أن يؤدي ذلك إلى توظيف القدرات العربية بشكلٍ جدّي وحقيقي على مستوى الأمم المتحدة ومؤسّسات العدالة الدولية.
تبقى قضية من شأنها أن تؤشّر على مدى جدّية القمة إزاء الملف الفلسطيني الداخلي، ذلك أن هذا الإجماع، يستدعي بذل جهدٍ حقيقي وفاعل في الضغط لإنهاء الانقسام الفلسطيني، وتمكين الفلسطينيين من تجاوز العقبة الإسرائيلية والأميركية.