مصر والدور الإقليمي

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 


امتلكت مصر كلّ مقوّمات الدور الإقليمي منذ أقدم العصور.
وحتى بالعودة إلى هذا الدور في المرحلة الفرعونية، الموغلة بالقدم فقد كانت «الهيمنة» المصرية تتمحور غالباً في ما يُعرف اليوم بالإقليم العربي، وكان هذا الإقليم بالذات هو المجال الحيوي الأول للدولة المصرية في عهد مختلف الأسر التي توالت على حكم مصر.
وفي القرون الوسطى بقي الدور المصري بالغ الأهمية والتأثير بعد تعريب مصر وخضوعها للدولة العربية الأموية ثم العبّاسية. وشكّل «الفتح» العربي الإسلامي لمصر ودشّن مرحلة تاريخية جديدة في هذا الدور.
أمّا مصر الحديثة والمعاصرة فقد بدأ دورها الإقليمي في عهد محمد علي باشا واستمر إلى يومنا هذا في فتراتٍ من المدّ والجزر، ومراحل من الصعود والتراجع، وفقاً للمعطيات السياسية التي مرّت بها مصر خلال مختلف هذه المراحل.
استند الدور الإقليمي الحديث لمصر إلى ركائز بناء الدولة الحديثة في عهد محمد علي، حيث شكّلت البعثات المصرية إلى أوروبا في ذلك الوقت رأس الحربة بالاستنهاض الشامل للمكانة المصرية الحديثة في كلّ المجالات. فقد تمّ بناء جيشٍ قوي، وبوشر ببناء صناعات تحويلية كبيرة بمقياس ذلك الزمن، واستثمر محمد علي في كل التناقضات الدولية آنذاك لبناء اقتصاد قوي يستند إلى قوة بشرية كبيرة تفوقت بها مصر على عموم الإقليم.
مصر امتلكت ــ كما تدلّ المعطيات ــ كل أسباب القوة، وكل مقومات الدور الإقليمي من خلال مشروع محمد علي ببناء الدولة، ومن خلال وحدة مصر مع بلاد الشام، لتشكيل «النواة الصلبة» للدولة العربية الحديثة، وكان إرسال الجيوش المصرية بقيادة إبراهيم باشا إلى بلاد الشام هو بمثابة إيذان لتوحيد الإقليم العربي على الطريقة «البسماركية» أو حتى على الطريقة «الغاريبالدية» في كل من ألمانيا وإيطاليا على التوالي.
في هذه الفترة التاريخية كانت الأطماع الاستعمارية الغربية «تطبخ على نارٍ هادئة»، وأخذ «الغرب» يُعدّ العُدّة لهزيمة مشروع الدولة العربية الذي أراد بناءه محمد على، واستطاع الاستعمار الإطاحة بهذا المشروع، وذلك نظراً لما كان «الغرب» يرى فيه خطراً على مستقبل مصالحه الاستراتيجية في كامل الإقليم.
أغلب الظنّ أنّ حملة نابليون بونابرت وفشلها قد أدى بـ»الغرب» إلى التفكير بفصل بلاد الشام عن مصر، وطموحات محمد علي قد أدّت بـ»الغرب» إلى نفس التفكير، ما أتاح لدائرة المستعمرات البريطانية في ذلك الوقت التفكير العملي المباشر بإقامة عازلٍ جغرافي وسياسي عرقي أو ديني لفصل مصر عن بلاد الشام، وهنا يبدو أنه يكمن بعض الجذور والاعتبارات الخاصة بإقامة إسرائيل لأداء هذه المهمّة والدور، علاوة على ما كانت تمثّله هذه «الدولة» من حلول تحتاجها أوروبا في مرحلة صعود القوميات «بالتخلص» من اليهود، وتحويلهم إلى «قومية» مُصنّعة في دوائر الاستعمار «الغربي».
وقعت مصر فريسة للأطماع البريطانية والفرنسية، وجرى التحكُّم بمسار تطورها، وضبط دورها الإقليمي وتقليمه طوال فترة حكم أبناء محمد علي إلى أن أطاح «الضبّاط الأحرار» بالنظام الملكي وتأسيس الجمهورية المصرية الأولى في التاريخ.
مع ثورة 23 يوليو دخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها ومن دورها الإقليمي.
استطاعت «الناصرية» بعد تجاوز السنوات الأولى للثورة وما كانت تنطوي عليه من عقبات وصعوبات أن تعيد بناء الدولة المصرية من جديد بالاستناد إلى مرتكزات وقواعد وأسس متينة كانت قد أرستها مرحلة محمد علي، واستطاعت تحديداً إحداث ثلاثة تحوّلات إستراتيجية:
التحول الأول، تمثّل بالإصلاح الزراعي، والذي نتج عنه كهربة الريف المصري بعد مشروع السدّ العالي، وبعد أن وضع السدّ حدّاً نهائياً لأخطار فيضان النيل، وفي هذا الإطار تم الاستيلاء «القانوني» على الملكيات الزراعية الكبيرة ذات الطابع الإقطاعي، وتمّت إعادة توزيع الأرض على جموع الفلّاحين في كل أنحاء مصر.
أمّا التحول الثاني، فكان الثورة في مجالات التصنيع، وخصوصاً في مجال الحديد والصلب، وعشرات، بل ومئات الصناعات التحويلية والتي أعادت رسم الخارطة الاجتماعية للثورة الجديدة.
أمّا التحول الثالث، فكان الثورة في مجال التعليم حيث تحوّل إلى إلزامي ومجّاني في المراحل كلّها، وتطورت مصر في كل المجالات الثقافية والفنية، وتحوّلت إلى مركزٍ لاستقطاب عشرات آلاف الطلبة العرب والأفارقة، وتصاعد دور مصر في التحالف مع الاتحاد السوفييتي، وتطور دورها كثيراً في دعم حركات التحرُّر الوطني، وأنجزت مصر بناء أكبر تحالف عالمي ممثلاً بحركة عدم الانحياز مع كل من الهند ويوغسلافيا.
وفي هذه الأثناء أوعزت القيادة الناصرية بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني، بعد أن كانت قد رمت بكلّ ثقلها لنصرة الثورة الجزائرية، وأرسلت جيوشها للقتال في اليمن في إطار رؤيتها لدعم ثورة الشعب اليمني على الرجعية السياسية وحكم الإمامة المتخلّف آنذاك.
لم تكتفِ الناصرية بكل ذلك فقد هدّدت المشروع «الغربي» كله من خلال تأميم قناة السويس، والذي رأى فيه «الغرب» آنذاك بمثابة هجوم كاسح من قبل مصر على المصالح «الغربية».
ردّت مصر على العدوان الثلاثي بإعلان الوحدة العربية مع سورية، وقيام الجمهورية العربية المتحدة، وأصبح مشروع الدولة المصرية من الناحية الواقعية هو الركيزة الأساسية لدورها الإقليمي.
إلى هنا أخذ «الغرب» القرار بدعم إسرائيل الكامل والشامل لشنّ حرب حزيران، وتمّت هذه الحرب، وكان من نتيجتها هزيمة مصر وسورية والأردن والجيوش العربية التي ساندتهم، ووقع ما يُعرف بالنكسة في محاولةٍ للتخفيف من وطأة ووقع مفهوم الهزيمة التي لحقت بمصر أولاً وقبل أيّ بلدٍ آخر.
تحوّل الدور الإقليمي لمصر بعد النكسة «لإزالة آثار العدوان»، وتحوّلت كل الأولويات للمجهود الحربي، وبدأت «حرب الاستنزاف»، وأعاد جمال عبد الناصر بناء الجيش، وبدأت مرحلة التحضير لـ «حرب أكتوبر»، وتمت إقامة حلف مصري سعودي سوري نتج عنه الانتصار في الحرب عسكرياً، والهزيمة السياسية الكاملة أمام الولايات المتحدة في المرحلة الساداتية، بعد أن سلّم أنور السادات مفاتيح الإقليم كله للولايات المتحدة على اعتبار أنها ــ أي الولايات المتحدة ــ تمتلك 100% من أوراق الحلّ في المنطقة.
وهنا لم يتمّ فقط التراجع والتنكُّر لكل منجزات الثورة الناصرية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وفي الدور الإقليمي القومي لمصر، وإنما بدأت مرحلة «الانفتاح» والتي دشّنت مرحلة تسليم مصر للرأسمالية المصرية الطفيلية التي نمت على هامش عهد الانفتاح، وبدء دور «القطط السمان» في نهب مقدّرات الشعب المصري، وعاد العهد الإقطاعي إلى الريف من شبّاك مرحلة الانفتاح، وتحوّلت بيروقراطية الدولة المصرية الجديدة إلى شريكٍ مباشر للرأسمالية الطفيلية، وتراجع دور ومكانة البورجوازية الوطنية التي شكّلت عماد «الحكم» في مصر بالتحالف مع العمّال والفلّاحين طوال مرحلة الناصرية.
ولم تتوقّف عملية الارتداد عند هذا الحدّ، فقد تمّ طرد الخبراء السوفييت بناءً على اشتراطات أميركية في ذلك الوقت وتم عقد (صفقة تاريخية) بين نظام السادات وبين الولايات المتحدة تمثّلت باستثمار نتائج «حرب أكتوبر» للتنصُّل والتخلُّص الكامل من الدور الإقليمي لمصر، وخروج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل، والتي تتوّجت بزيارة السادات إلى إسرائيل، ثم تتوّجت وتبلورت في «اتفاقيات كامب ديفيد».
أهمّ نتيجة إستراتيجية لـ «اتفاقيات كامب ديفيد» كانت إنهاء الدور الإقليمي لمصر رسمياً، وإخراج مصر من الصراع، إلى درجة أنّ العرب، ولهول ما انطوت عليه هذه الاتفاقيات «حاصروا» النظام المصري، وقاطعوه، وسحبوا من القاهرة مقرّ الجامعة العربية، وانقسم العالم العربي، وتشرذم بصورةٍ لم يسبق لها مثيل، ولم تعد مصر لتستعيد بعض البقايا من دورها الإقليمي إلّا بعد اغتيال السادات، وبعد حربي الخليج الأولى والثانية.
لكن الدور المصري طوال فترة الرئيس حسني مبارك لم يتمكن من العودة إلى درجة مؤثّرة وفاعلة، وما زال هذا الدور في مدٍّ وجزر إلى يومنا هذا، ولم تعد مصر إلى دورها القيادي في المنطقة بعد.
بدأت مصر بمحاولات تحديث الدولة بعد التخلُّص من «نظام الإخوان»، وهناك محاولات جادّة لبناء (بنية تحتية) متطوّرة بمثابة قاعدة انطلاق للدولة الحديثة، إلّا أن هذه المشاريع لا تستطيع سدّ الهوّة الكبيرة القائمة في مشكلات معدّلات النمو الحالية، ولا التأثير المباشر على مستوى الحياة للمصريين، ما يحوّل هذه المشاريع إلى عبءٍ إضافي على حياة الناس.
الدور الإقليمي لمصر ما زال مؤجّلاً ومُرتهناً للأزمة أو المسألة التنموية، والأزمة التنموية لمصر لن تُحلّ أبداً قبل التخلص من أزمة المديونية، وهي حلقة مُفرغة من الأزمات المتتالية والمتراكمة لا حلّ لها إلّا بصيغة من التحالف المصري السعودي الجديد على أُسس سياسية استثمارية، وليس استثمارية سياسية. وأظنّ أنّ بيت القصيد كلّه يكمن بالضبط هنا، وهنا فقط.