ذكريات عن النكبة المنكوسة و النكسة المنكوبة

lFDcS.png
حجم الخط

بقلم حمدي فراج

 

يفصل ذكرى نكبتنا عام 48 عن نكستنا عام 67 عشرون يوما ، عشت في الأولى طفلا صغيرا و شهدت الثانية فتى في العاشرة ، لكن نقطة التحول في حياتي بدأت بعد ان نلت شهادة الثانوية العامة بمعدل جيد جدا ، يعادل معدلات اليوم المرتفعة التي تقل عن 100% بقليل ، يومها عرض علي ابي بشيء من الاذلال والانكسار ان يعلمني مهنة الحلاق او السائق ، كان حينها ثلاثة من اشقائي الأكبر يتعلمون الطب والهندسة ، بينهم اختي "نعيمة" التي كانت في كلية للمعلمات في الأردن ، وواضح انه لم يعد باستطاعته تعليم المزيد ، لكني أدركت معنى العرض (سائق او حلاق) لاحقا ، من ان هاتين المهنتين تجنيان ارباحهما فورا و يوميا دون الاضطرار لانتظار شهر كما باقي المهن و الوظائف ، لم ترق لي منحة "الصيدلة" في اليونان التي اقترحها علي اخي الأكبر طالب الطب هناك "نبني بناية من طابقين ، في الثاني عيادة و في الأرضي صيدلية" ، رفضت فكرة "الصيدلة" لانها لا تختلف كثيرا عن الدكان ، و مع ذلك سافرت الى الأردن للالتحاق ببعثة الى العراق ، لكن خالي الذي كنا نحبه حبا تقديسيا ، نصحني بعدم التغرب ، خاصة ان هناك جامعة جديدة فتحت في بيت لحم ؛ تبقى عند اهلك و تدير بالك على اخوتك الأصغر . 

 

لكن السبب الحاسم كان : اذا لم تلتحقوا انتم طلاب فلسطين بالجامعة الفلسطينية الوليدة ، كيف سيصبح لديكم جامعات . عدت من فوري الى بيت لحم متأخرا بضعة أيام ، لكن الخوري الأخ برندن اول عميد للجامعة عندما رأى شهادتي رحب بي بحفاوة ، و قلت له انني فقير ولا يملك ابي دفع اقساطي لأنه يصرف على ثلاثة من اخوتي ، فقال لي ان الجامعة تقدم منحا للمتفوقين الحاصلين على ما يسمى مرتبة الشرف . ومن يومها لم أدفع أي قسط طوال السنوات الأربع اللاحقة . واجهتني مشكلة الاندماج مع بقية الطلبة الذين ينحدرون من أسر غنية ، يلتحقون بالجامعة من أجل الوجاهة و ليس من أجل الحاجة الى الشهادة والوظيفة ، و اكتشفت مبكرا ان مشكلة الاندماج يعاني منها أيضا نفر آخر من الزملاء ، كنت ابحث عنهم بعد انتهاء المحاضرة فلا أجدهم ، و عندما سألت كل واحد منهم ، قالوا انهم يخرجون من الجامعة لانهم لا يجدوا مكانا بين بقية الطلبة ، خاصة الطالبات ، ولا يستطيعوا الذهاب الى الكافتيريا لانهم لا يملكوا نقودا ثمن الطعام او الشراب .

 

 احدهم من حوسان والثاني من بيت امر والثالث من صوريف . كشفوا لي انهم يخرجون الى السوق واحدهم الى الجبل المقابل لمخيم الدهيشة (الدوحة اليوم) ، فقلت لهم ان الحل الأمثل ان نبقى داخل الجامعة و ان نحضر طعامنا معنا من بيوتنا ، انت تحضر رغيفين من خبز الطابون الذي تعده أمك يوميا وانت تحضر بندورة او بصل من مقثاتكم وانت تحضر الزعتر وانا احضر الزيتون ، و بدأنا نأكل بشكل جماعي مكشوف ، شيئا فشيئا راق المشهد و ربما الطعام لآخرين و أخريات من بيت ساحور و بيت جالا والقدس و بدأوا يقاسموننا طعامنا ، و في نهاية السنة الدراسية ، كنا قد اكتسحنا مجلس اتحاد الطلبة ، و لاحقا أممنا الكافتيريا .