كان يمكن مواجهة مسيرة الأعلام الاستيطانية الاستفزازية بمسيرات شعبية ترفع العلم الفلسطيني في القدس، وسائر المدن الفلسطينية، وفي الشتات.. لكن هذا لم يحدث بالشكل المأمول! والسبب أننا كنا ننتظر رد المقاومة، وتحديدا الصواريخ! فلماذا بتنا لا نتصور المقاومة إلا في شكل صواريخ؟
قبل ذلك، بعد جريمة اغتيال ثلاثة من قادة «الجهاد» انتظرنا 36 ساعة رد المقاومة، في تلك الساعات أجمع المحللون السياسيون على شاشات الفضائيات أنّ تأخر رد المقاومة أربك إسرائيل، وجعلها تعيش حالة قلق وتوتر، وأن مرافق الحياة في مستوطنات غلاف غزة تعطلت، وأن هذه الحالة ترهق إسرائيل، بالتالي توقفنا عن التفكير في أشكال الرد الشعبية.
ومع احترامنا لأصحاب وجهات النظر تلك، إلا أن التفكير بهذه الطريقة لا يعني إلا شيئاً واحداً: أننا أسرى في الفقاعة التي تحشرنا فيها إسرائيل، وأنها تقود تفكيرنا في الاتجاهات التي تحددها، وبمعنى آخر أننا نمارس أخطر أنواع التضليل الإعلامي، ونقود جماهيرنا بالاتجاهات الخاطئة.. أي باتجاه انتظار رد الصواريخ وغيرها، والاكتفاء بالانتظار، دون فعل شيء حقيقي.
هذا إذا افترضنا حُسن نوايا هؤلاء المحللين، لكن على ما يبدو أن أغلبية من يظهرون على الشاشات بصفة خبير إستراتيجي إما أنهم يتمتعون بقصور في الإدراك، أو أنهم يفكرون برغباتهم وأمانيهم، أو أنهم يخشون مصارحة الجماهير بقسوة الحقيقة، أو أنهم مجرد أناس يلقّطون رزقهم، ويبحثون عن شعبية وشهرة وتجميع مشاهدات ولايكات بمداعبة عواطف الجماهير وقول ما تحب سماعه، بغض النظر عن الحقيقة.
لقد نجح هؤلاء بجعل التفكير الجمعي للشعب الفلسطيني والعربي منصبّاً في مشهد واحد، يترقبونه بشوق وقلق في جو من الإثارة والحماسة: ينتظرون ردة فعل المقاومة في غزة، وبالذات ينتظرون مشاهدة رشقات الصواريخ.. ليكبروا ويهللوا.. ولا يهم ماذا سيحدث بعدها.. المهم أننا شفينا غليلنا، ونلنا ثأرنا.. والمهم لجماعات المقاومة أنها قامت بواجبها على أكمل وجه، وأضافت نصراً جديداً في سجل الانتصارات.
المتابعون للمشهد من خارج غزة يظنون أنفسهم في مباراة كرة قدم، وينتظرون تسجيل هدف ليقفزوا فرحاً من مقاعدهم.. لم يفكروا كيف تعيش العائلات في غزة وهي تنتظر القصف! وكيف ينامون على صوت الانفجارات! وكيف ستكون حيواتهم في اليوم التالي من القصف! لا أريد الاستفاضة في وصف الجوانب الإنسانية والمأساوية لحال الناس في غزة أثناء وبعد كل حرب عدوانية.. جميعنا نشاهد صورهم في اليوم التالي ونبكي ألما وبعضنا يتباكى شفقة لهول ما نراه.. لكننا غفلنا وعجزنا وربما لم نرغب في تصور تلك المآسي قبل ذلك بيوم واحد.. وبعضنا يظن أن الناس في غزة استثنائيون، أعصابهم من فولاذ، وجلودهم من زجاج، وقلوبهم قدت من حجر.
والسؤال المطروح إزاء هذا النهج الإعلامي: ماذا لو أوقفت إسرائيل سياسة الاغتيالات؟ وتوقفت عن الاقتحامات وغيرها من الأعمال العدوانية؟ هل سنطالب المقاومة بالرد؟ وما هو شكل المقاومة الذي يتوجب اعتماده في تلك الحالة؟
وبالعودة للمشهد من الجانب الآخر، والحديث عن أعصاب إسرائيل المنهارة، وخوفها، وقلقها، وشلل الحياة فيها، وارتباكها وتخبطها..إلخ.. من قال إن تعطيل المدارس في تلك المنطقة لأيام، أو حتى لأسابيع يعني شيئا عظيما؟ ألم تعطل مدارسنا لشهرين وأكثر وبإرادتنا، ومع ذلك ظلت حياتنا طبيعية؟ من قال أن توقف المصانع هناك لفترة معينة يعني انهيار الاقتصاد الإسرائيلي؟ ومن قال إن لجوء المستوطنين للملاجئ علامة ضعف؟ ومن قال أن الإسرائيلي غير مستعد للتضحية من أجل دولته؟ ومن قال إن دولة إسرائيل غير مستعدة بالتضحية بمئات بل وبعشرات الآلاف من اليهود إذا لزم الأمر؟ بل ومن قال إن خسارتها لمثل تلك الأعداد سيؤدي إلى انهيارها؟ في الحقيقة من يسوّق لتلك الأفكار أصحاب خطاب أيديولوجي رغائبي مضلل، خطاب قاصر عن فهم وإدراك حقيقة وطبيعة دولة إسرائيل ودورها الوظيفي ومكانتها في المعادلة السياسية الكونية وفي النظام السياسي العالمي، غير مدرك أن إسرائيل (دولةً ومجتمعاً) منذورة للحروب، وتعيش عليها، ومن أجلها، بل وتجد فيها مخرجاً من أزماتها الحكومية، وتجمّد من خلالها تناقضاتها الداخلية.
هذا الخطاب غير قادر على بناء تقدير موقف وإعداد خطة إستراتيجية وطنية ورؤية بعيدة الأمد في كيفية خوض وإدارة الصراع.. خطاب لا يريد ولا يسعى لإنهاء الاحتلال وتصفية المشروع الصهيوني، لأن ذلك يتطلب أولاً إنهاء الانقسام، ويتطلب بالضرورة امتلاك رؤية إستراتيجية تضع كل ذلك في الاعتبار، تضع موازين القوى، والأساليب الناجعة، والوسائل الصحيحة في حسبانها، وبناء عليها تخوض غمار الكفاح الوطني.. وغير ذلك يعني أن من يخوض النضال دون تلك الأدوات والإستراتيجيات إنما يبحث عن مكاسب حزبية وآنية، أو ينفذ أجندات لقوى خارجية لها أغراض أخرى.
لا أقصد تعظيم قدرات إسرائيل، بحيث نتصورها قوة عظمى جبارة وخارقة ولا يمكن هزيمتها؛ بل إدراك حدود قوتها الحقيقية، وأنها قابلة للهزيمة، وأننا قادرون على ذلك، ولكن ليس بالأدوات والأساليب التي نراها ونصفق لها، ولم تجلب سوى المزيد من الخراب والدمار والهزائم.
وبالعودة إلى انتظار ردة فعل المقاومة على اغتيال ثلاثة من قادة الجهاد، لماذا لم ننتظر بهذه الحماسة والشغف ردة فعل على جرائم إسرائيل الأخرى (وجود الاحتلال بحد ذاته، الاستيطان، بناء الجدار، تهويد القدس، واعتراف أميركا بها عاصمة أبدية لإسرائيل، ضم الجولان، اقتحامات الأقصى، هدم البيوت، مصادرة الأراضي، عدم الاعتراف بحقوقنا الوطنية، الحواجز، التنكيل، الاعتقالات، التهجير القسري، محاولات شطب حق العودة...) السبب أن الإعلام الحزبي والموجه وضع عقولنا في صندوق، وهذا الصندوق على مقاسه، ولخدمة مصالحه فقط.
والسبب أيضاً أننا حشرنا أنفسنا في صيغة ردة الفعل، ولم نبنِ إستراتيجية وطنية للمقاومة بحيث تكون فعلاً يومياً دائماً ومستمراً وبأساليب وأدوات ناجعة ومبنية على تحليل الوضع وتقدير الموقف بشكل منهجي، وتعتمد على الجماهير بشكل أساسي؛ بل جعلنا المقاومة فقط عبارة عن صواريخ وعمليات عسكرية ينفذها أفراد أبطال، وعلى باقي الشعب الانتظار والتفرج.
لا أقلل أبداً من أهمية الصواريخ، وأهمية العمليات الفدائية، والكتائب المسلحة، لكن حصر المقاومة في هذه الأشكال فقط هي الكارثة التي تبقي الجماهير في مقاعد الانتظار، وهي التي تجعل إسرائيل في دور الفاعل، المبادر، المتمكن، المتحكم في جميع المسارات.