استقبل بنيامين نتنياهو قبل اثني عشر عاماً من قبل الكونغرس الجمهوري في ذلك الوقت، استقبالاً حافلاً، أثار دهشة الرجل نفسه، وذلك في عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، الذي كان قد نجح لتوه في اغتيال زعيم «القاعدة» الذي أوجع الأميركيين باستهدافه برجي التوأم والبنتاغون قبل ذلك بعشرة أعوام، وكان أوباما يدير عن بعد ما سمي بالربيع العربي، الذي كان في حال نجاحه سيعني استغناء أميركا عن الكثير من خدمات إسرائيل، التي كانت تعتمد عليها كثيراً إبان الحرب الباردة، فيما يخص الحفاظ على وجودها في الشرق الأوسط، أو ما تسميه مصالحها في المنطقة.
وكان اوباما قد دخل في نفق من الخلاف مع نتنياهو، بعد أن حاول الرئيس الديمقراطي العودة لسياسة سلفه الديمقراطي بيل كلينتون برعاية جدية للعملية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تلك العملية التي شهدت خلال ولاية جورج بوش الابن التالية لولاية بيل كلينتون، عدم اهتمام يذكر، حيث ركز الرئيس الجمهوري على مواجهة القاعدة وحرب أفغانستان، وهكذا كان أن لجأ نتنياهو إلى الجانب الجمهوري لمواجهة ضغط أوباما السياسي عليه، الناجم عن مبادرة الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، القائمة على أساس التفاوض على حدود 67، مقابل إغلاق ملف حق العودة، وقد كان أوباما كما هي عادة الرؤساء الأميركيين أكثر حماسا في ولايته الأولى لحل مشكلة الشرق الأوسط، فيما توقف عن ذلك في ولايته الثانية التي شهدت توقفاً تاماً ونهائياً للتفاوض بدءاً من العام 2014 وحتى الآن.
ما بين الأمس واليوم يبدو حال نتنياهو مع واشنطن قد تغير كثيرا، فلم يعد الأمر مقتصرا على رئيس ديمقراطي قوي وحيوي وطموح مثل اوباما، بل اتسعت دائرة عدم الترحيب بنتنياهو لتشمل جزءا مهما من الجمهور الأميركي، وقد انعكس ذلك بشكل متزايد في عدد أعضاء الكونغرس الذين باتوا لا يرحبون برئيس الحكومة الإسرائيلية اليميني وبمعظم أعضاء حكومته، كما أن الأمر لم يعد مقتصرا على نتنياهو ولا حتى على ايتمار بن غفير، أو بتسئليل سموتريتش، ولكن في تغير النظرة تجاه إسرائيل بشكل عام، حتى وصل الأمر إلى أن الرئيس جو بايدن، لم يوجه الدعوة حتى اليوم، أي بعد خمسة أشهر من جلوس نتنياهو على مقعد رئيس الحكومة للمسئول الإسرائيلي لزيارة واشنطن، وذلك يعني بأنه لا يرغب في رؤيته، وهذا يعود لأكثر من سبب بالطبع، وبايدن هو نفسه، الذي سارع بعد أسابيع قليلة من تولي خصم نتنياهو يائير لابيد زمام الحكومة الإسرائيلية لزيارة تل أبيب بنفسه.
بعد كل هذا الوقت، وبعد أن بات واضحاً جداً بأن تل أبيب وواشنطن بحاجة ماسة لمتابعة التنسيق الأمني خاصة بينهما، في ظل تصاعد حدة أكثر من ملف إقليمي من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، لم يعد نتنياهو قادراً على إخفاء امتعاضه من البيت الأبيض الذي لم يعد يرى فيه الولد المدلل، بل يواصل منذ تشكيله حكومة التطرف الإسرائيلية الحالية، كل يوم إظهار رفضه لمواقف حكومته وقراراتها السياسية، إن كانت تلك الخاصة بإطلاق جنون الاستيطان، حومش مثالاً، أو كانت تلك المتعلقة بخطة احتواء القضاء، وتزايد مظاهر العنصرية والتطرف لدى الحكومة الحالية، وفي حقيقة الأمر، فإن لدى بايدن أكثر من سبب ليظهر امتعاضه من الإسرائيليين، الذين خاصة بيمينهم واصلوا مهمة إفشال سياساته، واحدة تلو الأخرى، منذ أن دخل البيت الأبيض، قبل عامين ونصف العام من الآن.
أولاً: أفشل الإسرائيليون سعي بايدن لتحييد الملف الإيراني، من خلال العودة للعمل وفق اتفاق العام 2015، الذي أوقفه الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، بتحريض من نتنياهو بالتحديد، كذلك وقف الإسرائيليون سدا أمام إعلان الإدارة الأميركية عقب دخول بايدن البيت الأبيض إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، وأحرجوا إدارة بايدن بمنع حدوث ذلك، رغم مرور نحو ثلاثة أعوام على ذلك الإعلان، لدرجة أن مسؤولي الخارجية الأميركية لم يعودوا يتحدثون عن ذلك الأمر، وقد بلعوا ألسنتهم التي تشدقت بهذا الأمر من قبل.
وقد جر الأميركيون بايدن وإدارته إلى مسارهم المفضل وهو متابعة طريق التطبيع خاصة نحو السعودية، ودفعوا ببايدن من أجل تلك المهمة للذهاب إلى جدة قبل نحو عام، لخطب ود الأمير محمد بن سلمان، بعد أن سبق لبايدن أن أعلن عن شعارات انتخابية نارية تجاه المملكة السعودية خاصة فيما يخص ملف حقوق الإنسان، وفعلا استقبله بن سلمان بكثير من البرود والتعالي، ولم يفوت فرصة التشفي بالرجل الذي استخف بالمملكة العربية السعودية وبأميرها الشاب.
ولم يتوقف الإسرائيليون عند ذلك، بل أنهم تميزوا عن كل حلفاء أميركا في العالم فيما يخص الملف الأوكراني، وقد وضعوا حساباتهم الخاصة فوق الاعتبار الأميركي الأهم وهو سعي واشنطن لاستعادة هيبتها وهيمنتها على النظام العالمي من البوابة الأوكرانية، وواصل الإسرائيليون وضع الأميركيين في موضع المحامي الفظ عن المتهم المجرم، بجرجرة أميركا كل يوم في محافل الأمم المتحدة، المختلفة، بما فيها مجلس الأمن، من خلال استمرار اعتداءاتهم العنصرية والاحتلالية بحق الشعب الفلسطيني، لدرجة أن أميركا نفسها، اضطرت أكثر من مرة لإعلان امتعاضها واستغرابها من التصريحات والمواقف العنصرية لأعضاء حكومة نتنياهو، كما أن رئيس الحكومة نفسه لم يهتم ولا بأي شكل بما طلبته منه واشنطن عند تشكيله حكومته الحالية، بعدم ضم بن غفير وسموتريتش إليها.
وقد رد نتنياهو مؤخراً على استمرار واشنطن غلق أبوابها أمامه شخصياً، وأمام معظم أعضاء حكومته، بتوجيه الأمر لوزرائه، أي لأولئك الذين تتعامل معهم واشنطن، خاصة وزير الجيش الليكودي يوآف غالانت، الوزير الذي يبدو أنه الوحي، أو واحد من الوزراء الإسرائيليين القلائل، الذين يختلفون قليلا عن نتنياهو، أو أنهم يظهرون عدم انصياع أو انقياد لمقود التطرف الذي يمسك زمامه ابن غفير، والذي يبدو أنه مازال مهتما بالحفاظ على مؤسسة الجيش والأمن كذخر للدولة ويرفض احتواءها السياسي، كما أنه كان الوحيد تقريبا من بين وزراء الحكومة الذي رفض خطة وزير العدل الخاصة بالقضاء، بعد أن شاهد ما ألحقته من ضرر بوحدة المجتمع الإسرائيلي.
ولهذا فإن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن لن يلتقي نظيره الإسرائيلي في واشنطن، بل في أوروبا، خلال أسابيع مقبلة، حيث يعد الطرفان ملفاً للتباحث بشأنه له علاقة بما تواجهه إسرائيل من تحديات على عدة جبهات في آن معاً، دفعها لتنفيذ مناورة الضربة القاضية، ولمدة أسبوعين، تحاكي فيها قتالا متعدد الجبهات في الجو والبر والحبر والسايبر، كذلك يتم اختبار قدرة الجيش الإسرائيلي على خوض معركة طويلة الأمد.
ويبدو أن الأمن هو المدخل الذي يجنب الطرفين الخلافات السياسية التي تتسع دائرتها بين الجانبين بعد عقود من التحالف الاستراتيجي بينهما، تبين خلاله أن كل طرف يبدي قدرا كبيرا من الأنانية التي تجعله يفكر بنفسه أولاً، فأميركا مهتمة جداً بإعادة ترتيب العالم ضمن النظام العالمي أحادي القطب الذي دشنته بعد انهيار جدار برلين، فيما إسرائيل مهتمة فقط بتعزيز مكانتها وتحقيق طموحها كدولة إقليمية، تواجه إيران بالدرجة الأولى، بعد أن فتتت الكتلة العربية المانعة، وذلك على طريقة الجميع الذين لم يعودوا يرون في واشنطن البوابة الوحيدة لحمايتهم، فضلاً عن تحقيق مصالحهم، وهذا لا ينطبق فقط على الدول التي لا تربطها بواشنطن علاقات الود، من مثل إيران وكوريا الشمالية، بل بات يشمل دولا شرق أوسطية، مثل تركيا، السعودية، الإمارات، وحتى إسرائيل.