قد يختلف الناس أو يتفقون حول مدى جدية المبادرة الفرنسية وفكرة عقد المؤتمر الدولي لتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، والتهديد بالاعتراف بدولة فلسطين إذا فشل عقد هذا المؤتمر، ولكن هذه المبادرة كشفت المأزق السياسي الإسرائيلي ليس فقط في نظرة إسرائيل للعملية السياسية، بل وكذلك في شكل رد الفعل الرسمي تجاه فرنسا وهو ما خرج عن نطاق الرفض الدبلوماسي للفكرة إلى مستوى التشكيك بفرنسا وأنها تشجع الفلسطينيين على التعنت ورفض المفاوضات واتهامها بدعم الإرهاب والتشبيه بين المبادرة وبين دعوة "داعش" لحضور مؤتمر دولي.
الرد الإسرائيلي السريع برفض المبادرة والذي جاء من الحكومة وبعض أحزاب المعارضة أدى إلى إثارة جدل لدى بعض الأوساط الإسرائيلية حيث يعتقد بعض الساسة والمحللين أن الرد السلبي الإسرائيلي خطأ فادح وأن إسرائيل لا يمكنها أن ترفض حضور مؤتمر لتسوية الصراع حتى لو كانت غير موافقة على مضمونه.
وربما هذا ما جعل الحكومة تحاول تعديل موقفها بالقول إنها إذا تلقت دعوة لحضور مؤتمر ستدرسها وترد عليها. في الواقع المأزق الإسرائيلي يتفاقم على المستوى الدولي بتعاظم الإدانات للمضي قدماً في سياسة البناء الاستيطاني، وتجاهل الحكومة الإسرائيلية للموقف الدولي الواضح والقاطع بشأن الضرر الذي يلحقه الاستيطان بفكرة حل الدولتين التي تبناها المجتمع الدولي.
ولا شك في أن الموقف الأوروبي بوسم منتجات المستوطنات قد شكل منعطفاً مهماً في التعاطي الدولي مع هذا الموضوع، حتى أن الولايات المتحدة الأميركية تفكر باتباع الخطوة الأوروبية.
كما أن موقف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون كان واضحاً بشأن تحميل إسرائيل بسبب احتلالها وإجراءاتها الإذلالية المسؤولية عن العنف الذي تشهده المنطقة، وعاد وأكده بعد الاحتجاجات الإسرائيلية، وهو يعكس بطريقة أو بأخرى موقف الإجماع الدولي من الصراع والسياسات الإسرائيلية.
وما عبرت عنه السويد وفرنسا هو لسان حال أوروبا التي تشعر أن الأمن الأوروبي مهدد بصورة جدية بسبب استمرار الصراع الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي الذي يؤثر على الأقليات العربية والإسلامية في أوروبا وهو المدخل لتجنيد المقاتلين في التنظيمات الإرهابية المتطرفة.
ويوماً بعد يوم يضيق الخناق على إسرائيل بازدياد وتيرة المقاطعة التي بدأت تتسع في المجتمعات الأوروبية بعد تبني الكثير من منظمات المجتمع المدني لأفكار الحملة الدولية لمقاطعة إسرائيل، وصار الإسرائيليون يشعرون بحرارة هذه المقاطعة في الكثير من التفاصيل الحياتية في علاقاتهم مع دول الاتحاد الأوروبي.
ونتيجة لإدراك الحكومة الإسرائيلية للمخاطر المترتبة على اتساع نطاقها، حيث لا تزال تجربة جنوب افريقيا ماثلة في أذهان وذاكرة إسرائيل الرسمية شريكة نظام الأبرتهايد، قامت الحكومة والأوساط اليمينية المنضوية في إطارها والداعمة لها بشن حملة شعواء ضد كل المنظمات الحقوقية والداعمة لحقوق الإنسان في إسرائيل واتهامها بالخيانة وخدمة الأعداء المتربصين بإسرائيل والساعين لعزلتها وفرض المقاطعة عليها.
وكان الاتهام جاهزاً بوصفها بالمنظمات اليسارية الممولة من جهات دولية تريد الإضرار بالوضع الداخلي الإسرائيلي. بل ذهبت الحكومة بعيداً في استهداف هذه المنظمات بالسعي لسن قانون يقيد عمل هذه المنظمات بصورة كبيرة، وهو ما أثار ردود فعل دولية تشكك بديمقراطية إسرائيل وشفافيتها.
والغريب أن القانون المقترح لمنظمات حقوق الإنسان لا يشمل المنظمات والجمعيات اليمينية والاستيطانية المتطرفة التي تحظى بالتبرعات والدعم دون حدود ودون رقابة من الدولة على التمويل وعلى النشاط، وهي التي فرخت التنظيمات الإرهابية اليهودية التي تعتدي على الفلسطينيين وأحياناً على بعض الإسرائيليين الذين لا يروقون لها.
وبطبيعة الحال هناك رفض شديد لمشروع القانون في الأوساط العقلانية في المجتمع المدني الإسرائيلي الذي يرى فيه خطراً على صورة إسرائيل ويقودها إلى نظام ديكتاتوري قمعي لا يقبل النقد ولا يقبل التنوع.
التقرير الصادر عن المؤتمر السنوي لـ"معهد أبحاث الأمن القومي" في إسرائيل - حسب ما ورد في ملحق "المشهد الإسرائيلي" أمس - يؤكد أنه سيصعب على إسرائيل توسيع وتعميق الحوار والتعاون بينها وبين جهات إقليمية، سواء أكانت دولاً أم منظمات، تتقاسم معها مصالح مشتركة من دون حدوث تقدم ملموس في العملية السياسية مع الفلسطينيين، وهذا يدحض الادعاءات الرسمية بشأن التحالف مع الدول العربية المعتدلة ونفي ازدياد العزلة على إسرائيل، ويؤكد أنه لا مناص من التسوية السياسية.
تستطيع إسرائيل الرسمية أن تدعي أن العالم ضدها وأن بعض الدول والمنظمات "لا سامية" تعادي اليهود وتستطيع كذلك أن تستهدف منظمات حقوق الإنسان والعرب واليسار والمتسللين الأفارقة داخل إسرائيل وتستطيع مواصلة الحرب على الشعب الفلسطيني ولكنها ستجد نفسها في مواجهة مع نفسها عندما يتفاقم التناقض بين ما تدعيه بصفتها "دولة يهودية وديمقراطية" وهو مشكوك فيه كثيراً بسبب مصادرة حقوق الفلسطينيين وبسبب التمييز داخلها، وبين حقيقتها الجديدة كدولة يهودية قومية - أصولية متطرفة، لا احترام فيها لمبادئ حقوق الإنسان وتعاني من سياسة قمعية ضد كل من يجرؤ على الخروج عن نطاق ما يفكر به اليمين المتطرف الجديد فيها.
كما ستجد نفسها مضطرة لمواجهة اتجاه دولي حازم لحل الصراع حتى لو أخذ هذا بعض الوقت.