كانت النيّة تحليل جمل أدونيس الإنشائية، وبلاغته الفارغة، في أيامه السعودية، وعلاقتها بالحقيقة. ولكن، لا يليق بنا غض النظر عن عملية الجندي المصري، الذي اجتاز الحد مع الإسرائيليين في سيناء، وقتل ثلاثة من جنودهم، ولا ينبغي تجاهل علاقة كل كلام محتمل، في هذا الشأن، بسياسات الحقيقة، أيضاً.
يحدث هذا وفي الذهن أن الكارثة الحزيرانية المروّعة، التي وقعت في مثل هذه الأيام، قبل 56 عاماً، تنطوي، بعد كل هذه المسافة الزمنية، وبفضلها، على ما يُفسّر إفلاس "شاعر الحداثة" من ناحية، وعلى ما ينشئ صلة دلالية بين عملية "ذئب مُنفرد" والتاريخ، بالمعنى الكبير للكلمة، من ناحية ثانية.
وإذا أردنا إمساك الثور من قرنية، كما يُقال، سنكتفي بعملية الجندي، وما فيها، أو ليس فيها، مما يستدعي التفكير والتدبير. وأبرز ما يتبادر إلى الذهن، في هذا الشأن، أنها لن تؤثر على معاهدة السلام، والعلاقات الثنائية المصرية ـ الإسرائيلية، التي شهدت تطوّرات ملحوظة في السنوات الأخيرة، على مستويات مختلفة اقتصادية، وسياسية وأمنية.
وفي السياق نفسه، لا يوجد ما يبرر النظر إلى العملية المذكورة كحدث يقبل التكرار بطريقة مشابهة، في فترات زمنية متقاربة، على الرغم من كونها ليست الأولى (ولن تكون الأخيرة على الأرجح). فعلى مدار 44 عاماً من عمر معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية وقعت عمليات قليلة، فعلاً، منها عملية الجندي سليمان خاطر قبل 38 عاماً. وبهذا المعنى، لا ينبغي تحميل العملية أكثر مما تحتمل، والكلام عنها وكأنها قلبت المعادلات الاستراتيجية، أو غيّرت موازين القوى. فدون هذا وذاك خرط القتاد.
ومع ذلك، ثمة ما هو أبعد وأعقد، أي ما يُحرّض على البحث عن تلك الصلة الدلالية بالتاريخ. فقد اجتهد على صفحات التواصل الاجتماعي في مصر، كما في فلسطين، وفي الحواضر الشامية، والمغاربية، واليمانية، مغرّدون، ومدوّنون، وأصحاب رأي، وعابرو سبيل، في التعبير عن مواقف تنم عن قدر من التعاطف، وفي التحايل على الرقابة الإلكترونية، التي تحول دون استخدام مفردات معيّنة. لا ينبغي القول إن هذه الظاهرة واسعة النطاق، ومع ذلك يصعب تجاهلها.
وبقدر ما يعنيني الأمر، وبالاعتماد على أدوات تحليل النص في الدراسات الأدبية، أعتقد أن في تعليقات المصريين والفلسطينيين (أعني الإناث والذكور على حد سواء) وآخرين من الحواضر، ما يستدعي الملاحظة، ويستحق التعليق. فالقاسم المشترك بين هؤلاء وأولئك يتجلى في صورة نوستالجيا مُعذّبة، تفضح الحنين إلى زمن يُفترض أنه كان بطولياً، مع ما علق منه في المخيال الجمعي العام، وما يُحرّض على، ويُنجب من بلاغة ودلالات.
ومن المؤكد أن هذا القدر من النوستالجيا لا يمكن إدراكه، والقبض على دلالته الحقيقية، ما لم نضع في الاعتبار التداعيات المروّعة، بملايين التفاصيل الصغيرة والكبيرة، في الحياة اليومية، وفي نشرة الأخبار، لإحساس بالمهانة والخذلان يجتاح الناس في حواضر مختلفة، نتيجة الفقر والإفقار، وتفشي الفساد والطغيان بطريقة غير مسبوقة بعد نجاح الثورة المضادة في دحر موجة الربيع العربي، وتدهور المكانة السياسية والمعنوية، للمراكز الحضرية والحضارية في العالم العربي.
من الحماقة، بالتأكيد، إلقاء تبعات هذا كله على عاتق إسرائيل، فثمة أسباب بنيوية في صميم بنية النسق العربي ـ الإسلامي، والعلاقة بالأزمنة الحديثة، وبناء الدولة القومية. ولكن من الحماقة أكثر تجاهل حقائق من نوع أن قيام الدولة الإسرائيلية قد زعزع بنية الشرق الأوسط، وقلب العالم العربي رأساً على عقب. لا يتسع المجال، هنا، للكلام عمّا أعقب هذا التاريخ من فصول ومحطات. لذا، يكفي القول: إن من الحماقة أكثر وأكثر تجاهل أن انهيار الحواضر، والكارثة المحدقة بالفلسطينيين، يتضافران في أذهان أعداد تزداد اتساعاً من مواطني الحواضر، مع صعود الدولة الإسرائيلية كقوّة إقليمية في الإقليم، ومع ميلها إلى التطرّف كلما جنح أعداؤها إلى السلم، وما يستدعي هذا وذاك في نظر صنّاع سياستها من مشاريع وطموحات (وبلاغة، وثقافة، وحداثة إبراهيمية إذا شئت) لهندسة النظام الإقليمي على أسس جديدة، مع الحرص على ديمومة الانهيار. ومع هذا كله، وعلاوة عليه، يصعب تجاهل التناقض بين الآمال التي عقدها البعض على التنمية والرفاه الاقتصادي بعد السلام مع إسرائيل، وما تجلى ويتجلى من خيبات متلاحقة بعد عقود طويلة من السلام.
وبناء عليه، عندما يقول صنّاع السياسة والاستراتيجية في إسرائيل، وفي واشنطن، مثلاً، إن عملية "الذئب المنفرد" على الحد مع الإسرائيليين في سيناء خطيرة، فما من معنى للخطورة أبعد مما ذهبنا إليه من فرضيات حتى الآن. وإذا قلنا إنها خطيرة فما من معنى لهذا الكلام أبعد من تضافر كل ما تقدّم في المخيال العام، خاصة إذا أسفر عن نفسه، في لحظات مفصلية حاسمة، لنراه طافياً على سطح أمواج هائلة من الحنين في لغة سريعة الاشتعال، وقابلة للانفجار.
لا تقاس مشاعر كهذه بطريقة كميّة، ويصعب رصدها بالعين المجرّدة، وتشبه إلى حد بعيد حركة وحراك الطبقات الصخرية في جوف الأرض، فهي غير مرئية. ومع ذلك، يمكن العثور في الحنين، إذا تضافر مع ظروف اقتصادية وسياسية مواتية على صلة من نوع ما بين حادثة فردية في منطقة صحراوية من ناحية، والتاريخ من ناحية ثانية.
لا معنى لمشروع الدولة الإسرائيلية دون أسطورة الحنين، ولا معنى للمسيحية الإنجيلية، والحركات الألفية إذا جُرّدت من الحنين، ولا معنى لفكرة الحاضرة المصرية عن نفسها دون حنين إلى أزمنة بطولية مضت من رمسيس إلى عبد الناصر. لذا، لا سلام بلا سلام مع الفلسطينيين.