مولانا إحسان هندريكس: شيخ الأقصى وفلسطين في جنوب أفريقيا

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم د. أحمد يوسف

 

عندما هبَّ نفر من الشخصيات الفلسطينية والعربية والإسلامية لإنشاء مؤسسة القدس الدولية في العاصمة اللبنانية بيروت بتاريخ يناير 2001، بهدف خدمة المسجد الأقصى وقضية فلسطين، كان الشيخ إحسان هندريكس من أول المبادرين بالحضور مع وفد من إخوانه في جنوب أفريقيا، حيث قدَّم دعمه ومباركته واحتضانه الكامل لفرع المؤسسة في بلاده.


لم يسبق لي اللقاء بالشيخ إحسان والتعرف عليه قبل هذا اللقاء في بيروت، وكنت وقتها قادماً من أمريكا مع وفد من قيادات الجالية المسلمة هناك.. كانت مشاركتي لقاء التأسيس في لبنان فرصةً للتعارف وتجديد العلاقة مع المئات من الشخصيات العربية والإسلامية الذين قدموا من كلِّ فجٍّ عميق للمشاركة في دعم بناء هذا الصرح الإسلامي الكبير، انتصاراً لقضية القدس وما تمثله من رمزية عالية للمسجد الأقصى وفلسطين.


كان مولانا الشيخ إحسان أحد أعلام المسلمين في جنوب أفريقيا، وكان يتحدث اللغتين العربية والإنجليزية بطلاقة مما أتاح له مخاطبة جميع القادمين، وفتحت له هذه المناسبة أبواب التواصل مع مسلمي العالمين العربي والإسلامي إضافة لمسلمي أوروبا وأمريكا.


كان مولانا الشيخ إحسان داعية صاحب كاريزما ومن ذلك النوع من الرجال الذي تدخل محبته القلب بسهولة، وهو موسوعة علمية ومعرفية، وقد تلقى تعليمه الشرعي الأوليِّ بكلية دار العلوم في نيوكاسل، وهي أحد المعاهد الدينية في بلاده، ثم بالمؤسسة الإسلامية المعروفة بندوة العلماء في مدينة لكناو بالهند، ثم بالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا. لقد أتاحت له سفرياته الكثيرة إلى بلدان الشرق الأوسط للمشاركة في الأنشطة الدينية والمؤتمرات الإسلامية التي تعقد فيها إلى تفتح ذهنِّيته وتوسعة ثقافته الدينية والمعرفية والإنسانية بشكل كبير.


كان لقاء التعارف الأول الذي جمعنا في بيروت، قد سبقه لقاء آخر عابر في طهران تضاماً مع الانتفاضة الفلسطينية أواخر التسعينيات، لكنَّ لقاء بيروت هو ما تحفظ تفاصيله الذاكرة.

 

لقد لاحظت احتضان الكثير من الوفود الإسلامية للشيخ إحسان، وكانت مصافحاته وابتسامته حاضرة مع كلِّ شخصية يلتقيها، فالكلّ في هذا الحشد الكبير من العلماء والدعاة والقادة هم إخوانه، وما يجمعهم هو الأقصى وفلسطين.
تبادلنا النظرات، ودارت على ألسنتنا الكثير من معطيات القلم والكلمات، وكأننا نقول ونتعاهد: لقاؤنا القادم في فلسطين -إن شاء الله- والقدس موعدنا.

 

في المؤتمر السنوي لمؤسسة القدس في العاصمة الجزائرية عام 2005 كان اللقاء الثاني بيننا، حيث كنت وقتها مقيماً هناك. كان اللقاء استكمالاً للقاء بيروت، والعهد هو العهد: فلسطين تجمعنا والقدس موعدنا.

 

في الحقيقة، كان الشيخَ إحسان دائمًا يسعى وبكلِّ جهدٍ لجعلِ القضيةِ الفلسطينية قضيةَ كلِّ ‏المسلمين حول العالم، وكان يقومُ بالعديدِ من المظاهراتِ والفعالياتِ في جنوبِ إفريقيا نُصرةً ‏للقضية، وشارك في مؤتمراتٍ عدة عن القدسِ وفلسطين في دولٍ متعددة‎، كما أسّس ‏متحفَ فلسطين في مدينةِ "ديربن" بجنوبِ إفريقيا، وأيضاً له الفضل في بناء مسجد القدس مع إخوانه في مدينة كيب تاون.


يُعدُّ الشيخ احسان أحد أهم مناصري القضية الفلسطينية في القارة الإفريقية من غير العرب، وكان قبل وفاته (رحمه الله) رئيساً لمجلس القضاء الإسلامي، ورئيساً لمؤسسة القدس الدولية في جنوب أفريقيا، وعضواً لمجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي كان يترأسه الشيخ يوسف القرضاوي (رحمه الله)، وقد قاد الشيخ إحسان العديد من قوافل المساعدات وكسر الحصار عن غزة (2012-2013م)، وكان دوماً يؤكد في خطاباته أن قضية فلسطين هي قضية إسلامية عالمية، وهي قضية الأمة المركزية. ولا يُنسى للشيخ إحسان ما له من فضل كبير في استقبال العديد من الطلاب الفلسطينيين المغتربين للدراسة في جنوب افريقيا.


وفي رحلته التضامنية الأخيرة لقطاع غزة مع العشرات من إخوانه المسلمين من جنوب أفريقيا وأوروبا في قافلة "أميال من الابتسامات"، زار الشيخ إحسان العديد من المؤسسات والمراكز والجمعيات الإسلامية للتعرف من خلالها على أحوال القطاع وحجم المعاناة التي يتعرض لها أهله، جراء العدوان الإسرائيلي المتكرر عليهم.. كانت يده عامرة بالخير ولم يبخل عن أحدٍ بالعطاء.. ففي زيارته لمعهد (بيت الحكمة)، جرى بيننا أكثر من حديث حول قراءتنا للأوضاع في قطاع غزة وسبل النُصرة التي يمكن أن يقدِّمها للمقاومة الفلسطينية، إذ إنَّ فلسطين هي قضية المسلمين الأولى، وقد سبق لأهلها أن قدَّموا الدعم لنضالات شعبه، وكانت تجمع نيلسون منديلا بياسر عرفات (رحمهما الله) صداقات متميزة ومواقف تحفظها ذاكرة مناضلي المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC).


لقد شدَّنا الحديث في ذلك اللقاء لتذكر بعض مواقفنا التضامنية مع شعب جنوب أفريقيا والتظاهرات التي كنا نشارك بها كطلاب مسلمين في أمريكا احتجاجاً على سياسة التفرقة العنصرية (الأبارتايد) في الستينيات، والتي توسعت ساحات التضامن معها بشكل كبير أدى لفرض الإدارة الأمريكية المقاطعة الاقتصادية على حكومة بريتوريا، والرضوخ في نهاية الأمر لتفكيك نظام الأبارتايد وإلغائه ووصول نيلسون منديلا عبر الانتخابات الديمقراطية عام 1994 لمشهد الحكم والسياسة.
وفي ذلك اللقاء الحواري الجميل في بيت الحكمة، أخذنا الحديث أيضاً للدروس التي تعلمناها من تجربة منديلا في إدارة شؤون الحكم وتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار في البلاد. كان الشيخ إحسان جزءاً من ذلك التاريخ مع نلسون مانديلا وذاكرته تحتفظ بالكثير من وقائع وسنوات تلك التجربة.


بالطبع، كانت مقولة منديلا الشهيرة "إن حريتنا منقوصة في جنوب أفريقيا مادام الشعب الفلسطيني رازحاً تحت الاحتلال، ولن تكتمل حريتنا إلا بحرية فلسطين"، حاضرة في ذلك الحديث، كما أنَّ زيارة منديلا التاريخية لفلسطين عام 1996 ولقائه بصديقه ياسر عرفات لم تغب عن البال كذلك.


وفي سياق المظلومية التي تعرض لها الملايين من السود في جنوب أفريقيا، حدثنا الشيخ إحسان كيف نجح برلمان بلاده في العام 1995 بإنشاء لجنة "الحقيقة والمصالحة"، والتي تمكنت من إنهاء ملف العداوات والكراهية في البلاد، وهي حالةٌ أشار الشيخ إحسان إلى أننا كفلسطينيين بحاجة لدراستها ومحاكاتها، لتجاوز أخطاء ما جرى عندنا من اقتتال داخلي وأحداث مأساوية في قطاع غزة عام 2007.


في الحديث مع مولانا الشيخ إحسان تلمس الذكاء والحكمة بعيداً عن التعصب والطائفية، كما أنه معروف عنه حسِّ الدعابة والرؤية الوسطية والوعي السياسي الواسع بهموم الأمة الإسلامية وخاصة قضية فلسطين.


في الحقيقة، لقد استطاع شعب جنوب أفريقيا بنضالاته وحكمة قياداته أن يجعل من سياسة التفرقة العنصرية (الأبابيد) جريمة بحق الإنسانية، وهذا ما لفت أنظارنا إليه مولانا الشيخ إحسان وإخوانه من مسلمي جنوب أفريقيا، إذ أنَّ معركتنا مع الاحتلال الإسرائيلي طويلة ومتعددة الأسلحة وشكل الجبهات، والمقاومة لا بدَّ أن تكون موحدة مع حشد الأمة وتعبئة طاقاتها وتصويب بوصلتها نحو القدس.


في العاشر من أغسطس 2018، انتقل الشيح إحسان (رحمه الله) إلى الرفيق الأعلى، وودعته قلوب الفلسطينيين والمسلمين في كلِّ مكان، داعين الله أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته، وأن يتقبل منه ما قدَّم من جهد وجهاد من أجل القدس وفلسطين.