لا أحد يجادل في العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة والصين على خلفية صعود الثانية بقوة إلى سلم النظام العالمي واحتمالات إزاحة الأولى كأهم وأكبر قوة سياسية واقتصادية في العالم، وهو القلق الذي يبدو واضحاً على واشنطن في هذا الموضوع.
واشنطن التي هزمت الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة وغيّرت شكل النظام العالمي من ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية، تشهد في السنوات الأخيرة صعود التنين الصيني إلى الساحة العالمية والتنافس على لقب الدولة الأقوى والأكبر تأثيراً في العالم.
حتى تتحكم بالتمدد الصيني السياسي والتجاري، سعت الولايات المتحدة إلى إقامة تحالفات مع دول كثيرة، أبرزها تلك المجاورة للصين في شرق آسيا، وفعلت المستحيل لإيجاد موطئ قدم في بحر الصين الجنوبي لتغيير ميزان القوة مع بكين في أهم معبر للتجارة العالمية.
غير أن الصين التي تدرك مخاطر اندلاع حرب مباشرة مع الولايات المتحدة، باتت تستخدم نفس السياسة التي تستخدمها واشنطن بهدف إزعاجها ودفعها للحوار نحو إيجاد أرضية مناسبة تحقق مصالح الطرفين، والأهم مصلحة بكين في ممارسة ثقافة «التمسكن حتى التمكن».
صحيفة «وول ستريت جورنال» ، أوردت نقلاً عن مسؤولين أميركيين خبراً عن اتفاق سري جرى بين الصين وكوبا يهدف إلى إنشاء منصة تنصت إلكتروني في هافانا التي تبعد عن شواطئ ولاية فلوريدا الأميركية حوالي 160 كيلومتراً.
بصرف النظر عن حقيقة الخبر إلا أن واشنطن مهتمة جداً بأي تهديد خارجي يطالها ويمسّ أمنها القومي، وهي تراقب عن كثب كل التحركات الصينية والروسية تحديداً في قارة أميركا اللاتينية، وبالتأكيد ستمنع أي نشاط استخباراتي أو عسكري أجنبي يهدد أمنها ومصالحها في المنطقة.
من غير المستبعد أن تلجأ الصين إلى كوبا لإقامة شبكة تجسس تطال الاتصالات وحركة الملاحة الجوية والبحرية الأميركية، وكذلك قد ترحب هافانا بالطلب الصيني طالما وأنها ستحصل على مليارات الدولارات من بكين لتحسين وتصحيح وضعها الاقتصادي الصعب للغاية.
كذلك قد تفعل الصين ذلك بغرض استفزاز الولايات المتحدة على خلفية تمدد الأخيرة في بحر الصين الجنوبي، ونشر العديد من القطع البحرية وممارسة أنشطة وتدريبات عسكرية مع اليابان وكوريا الجنوبية، وتحليق الطائرات الأميركية فوق السفن الحربية الصينية.
حوادث استفزازية كثيرة حصلت بين البلدين كنوع من استعراض القوة والعضلات، آخرها قبل أيام حين قطعت سفينة حربية صينية الطريق أمام مدمرة أميركية في مضيق تايوان، وقبلها حادثة إسقاط سلاح الجو الأميركي منطاد صيني قبالة الساحل الشرقي للولايات المتحدة.
بكين التي تراقب الاهتمام الأميركي الكبير في عسكرة بحر الصين الجنوبي وتوسيع القواعد العسكرية في الفلبين واليابان، وإرسال المزيد من الأسلحة والعسكريين الأميركيين إلى تايوان، كل هذا فتح شهيتها -الصين- لممارسة أنشطة استفزازية في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.
أما واشنطن التي كانت شاهداً على تحسن العلاقات الكوبية- السوفييتية في خسمينات القرن الماضي، إلى حد الوصول لشفا حرب نووية بعد نشر السوفييت صواريخ حربية نووية في الجزيرة الكوبية عام 1962، استدركت مؤخراً -الولايات المتحدة- أن أسهل طريق لتحصين حديقتها الخلفية من أي تدخلات خارجية هو إيجاد لغة للحوار والتقارب مع هافانا.
التحول الأميركي تجاه كوبا حصل في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي أعاد العلاقات الدبلوماسية مع هافانا عامي 2015 و2016 وذهب بنفسه إلى العاصمة الكوبية، وهناك قرّر تخفيف العقوبات الاقتصادية والتجارية المفروضة على هذا البلد.
إدارة بايدن الحالية تسير على خطى السياسة الأوبامية، باختلاف بسيط يتعلق بالأولويات، إذ ترى واشنطن أن كل الثقل السياسي ينبغي أن يتركز في منطقة شرق آسيا وتحديداً في محاولة تطويق النفوذ الصيني ومنعه من الاستئثار بحركة الملاحة والتجارة العالمية.
لكن طالما وأن الصين تحاول «الصيد في المياه العكرة» بالنسبة لقناعات واشنطن، فإن الأخيرة قد تحاول بسط كوبا تحت جناحيها، إما بتخفيف العقوبات وتقديم المساعدات المالية، أو بزيادتها والتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية من جديد، بهدف احتوائها ومنعها من الذهاب للصين.
ثمة تكتم حول هذا الاتفاق السري، ولا أحد يعلم إن كانت الصين ستقدم بالفعل على إقامة قاعدة تجسس في الجزيرة الكوبية، ولن تسمح الولايات المتحدة بهذا الإجراء، وحالياً ثمة تحركات سياسية بين البلدين تهدف إلى تخفيف حدة التوترات بينهما.
أي محاولة للتقارب السياسي بين البلدين هي مجرد مُسكّنات لمرحلة ستشهد في المستقبل حدة في التنافس بينهما للهيمنة على الساحة الدولية، وقد يكون شكل الصراع على هيئة الحرب الباردة أيام الاتحاد السوفيتي، أو على شكل صراعات إقليمية وحروب بالوكالة تدار بـ«الريموت كنترول»، أو قد يأخذ أبعاداً أخرى وتنقل المعركة إلى البيئة الداخلية لإحداهما، أو حتى أن تتحول إلى حرب مباشرة وشاملة.