وكأنّ المنطقة العربية، ودولها المكونة، مكتوب عليها أن تتعايش مع الأزمات، وما أكثرها!
الأزمة التي تفرض نفسها في المقدمة في هذا الوقت هي الأزمة في السودان، بوصفها أزمة تطال بدمويتها وعنفها أهل السودان بشكل عام وفي معظم مناطقه تقريباً.
وتعود الأزمة في جذورها إلى مسلسل الانقلابات العسكرية، التي ظل السودان يعيشها على اختلافها وتنوع مسبباتها لأكثر من أربعين سنة (منذ انقلاب النميري).
وكان من نتيجة تلك الانقلابات الضعف الدائم والمتواصل للحكومات «المدنية» المتعاقبة، وغياب البناء والتنمية، ما أدى إلى إفقار بلد غني بالثروات الطبيعية والبشرية، وأدى كذلك إلى غياب قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية لكافة مكونات المجتمع السوداني، ما قاد إلى أن يصبح السودان سودانَين.
إن خاصية الوضع الحالي، وغرابته في نفس الوقت، أنّ من تشارك في تنفيذ الانقلاب الأخير، ومحاولة السيطرة على الحكم، قوتان عسكريتان متوازيتان: الجيش النظامي بتشكيلاته المتنوعة، وقوات الرد السريع التي كان رئيس النظام المخلوع قد أسسها لنفسه بشكل منافس للجيش، ورعاها وسلّحها وأوصلها إلى حال تقترب بقوتها من حال الجيش النظامي وقوته، وتتوازى معه ولا تتبع له.
التشارك المذكور بين القوتين المذكورتين لم يستمر لأكثر من شهور قليلة، ليبدأ بعدها التصارع المسلح والدموي للتفرد بمقاليد الحكم، واندلاع المعارك الشرسة بكل ما يتوفر لكل فريق من إمكانات. ولتبدأ مأساة السودان وأهل السودان وتستمر وتتواصل وتمتد وتتسع، دون أي مؤشر جاد على إمكانية واقعية لوقفها كمقدمة للتوصل إلى اتفاق.
الدور العربي الوحيد في هذا الأمر هو قبول عدد من الأنظمة العربية - المجاورة للسودان بالذات - استقبال آلاف من السودانيين الفارين من نار القتال.
وتمثل أيضاً في الدور السعودي في مباحثات، ومحاولات بالشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية، هدفها المباشر التوسط بين طرفَي القتال على طريق التوصل إلى حل، لكن دون أن تحقق أي نجاح جدي ودائم حتى الآن.
غير ذلك، لا وجود لدور عربي، ولا مبادرة عربية جادة ومتواصلة للحل باسم جامعة الدول العربية أولاً، أو باسم عدد من الدول العربية.
وهناك بعد السودان أو قبله مشاكل وخلافات أو احتياجات في داخل أكثر من دولة عربية تختلف في طبيعتها وثقلها، كما هي مثلاً في ليبيا وتونس وسورية والعراق وبين دول عربية أخرى، ولا يجوز لنا أن ننسى اليمن الغارق في الحروب على أنواعها لسنوات طويلة ومرشحة لتطول أكثر. وكلها خلافات أو احتياجات يمكن لجهد عربي موحد مخلص وجاد التدخل فيها مع احتمالات عالية للوصول إلى حل لها، أو على الأقل تحقيق نجاحات يمكن أن تساعد كمقدمة يمكن البناء عليها.
من أبرز الأمثلة وأحدثها على الحاجة الماسة للجهد العربي في دولة عربية وضرورة مد يد المساعدة أو المحاولة الجادة على الأقل هو الوضع في لبنان. فلبنان يعاني منذ سنة 2019 أزمة اقتصادية حادة عنوانها الأساسي انهيار قياسي في قيمة عملته المحلية مقابل الدولار، فضلاً عن شحّ المواد الأساسية، وأبرزها الوقود والأدوية.
يزيد من ثقل هذا الحال أن البلد يعيش بلا رئيس للجمهورية، ولا حكومة مصادق عليها من البرلمان (حكومة تصريف أعمال)، ودون أن يكون هناك أي مؤشر جاد على حل قريب للخروج من هذا الحال بانتخاب رئيس للبلاد مقبول من أغلبية أهل البلاد وقواها السياسية والمجتمعية، وبما يشكل المدخل الدستوري المناسب لتشكيل حكومة تقود البلاد.
حتى سورية، وبعد استعادة عضويتها في جامعة الدول العربية، لا تزال في حاجة لمشروع عربي يعينها على الخروج من الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي فرضها عليها الحصار والمقاطعة لأكثر من عشر سنوات.
ولا يمكن أن يتجاهل هذا الاستعراض للحال العربي القفز فوق أو تجاهل القضية الوطنية الفلسطينية بكل ما تواجهه من استمرار للاحتلال، وموات لأي مشروع دولي للحل. في توازٍ مع تغوّل في سياسات وممارسات دولة الاحتلال، وقمعها الدموي المتزايد لأهل الوطن وأصحابه، وفي التوسع الاستيطاني الجنوني بما يغير جذرياً في واقع الحال على الأرض، ويتجه بسرعة لفرض واقع جغرافي يمنع أي تحقق لأي حل سياسي يضمن لأهل الوطن الحد الأدنى من حقوقهم الوطنية، كما يعترف بها المجتمع الدولي.
المقدمات التي سبقت انعقاد مؤتمر القمة العربية الأخير في المملكة العربية السعودية، ثم انعقاده ونجاحه كما يتفق على ذلك الجميع، توفر الأجواء والظروف المناسبة التي تسمح بالمناداة إلى بلورة عمل عربي مشترك للتعامل مع الحال العربي، والمبادرة للتعامل بمقترحات ومشاريع عربية جماعية واقعية وموحدة مع الأوضاع في البلدان العربية التي تم استعراض بعضها.
وهل هناك داع للتساؤل: «متى؟ ولمن يكون شرف المبادرة؟»، فالواقع القائم باحتياجاته الملحة والواضحة يفرض نفسه، وهو نفسه من يفرض التساؤل.