استكمالاً لقراءة كتاب د. علي الجرباوي «من الطرد إلى الحكم الذاتي» نستعرض هنا مسار أوسلو، والمبرر الموضوعي لقبول الفلسطينيين اتفاق أوسلو: اختلال موازين القوى، والضغوط الدولية، وأن الظروف المحيطة لن تعطينا أكثر من ذلك، وأن المسألة الجوهرية هي الحصول على موطئ قدم في الأرض المحتلة، واعتراف إسرائيل بالمنظمة وأن اعترافها يعني اعترافها بالشعب الفلسطيني، وبالتالي بحقوقه الوطنية، وهذا سيوصل في نهاية المطاف إلى دولة فلسطينية مستقلة.
أما إعلان المبادئ الذي وقع في واشنطن (أيلول 1993) فلم يكن يتعلق بتحديد أسس ومرتكزات تسوية الصراع، وحل القضية الفلسطينية التي أرجئ شأنها لمفاوضات مستقبلية، بل اختص فقط بترتيبات الحكومة الفلسطينية الانتقالية، مع أن ديباجة الاتفاق تضمنت الاعتراف المتبادل والسعي للعيش المشترك في ظل تعايش سلمي بكرامة وأمن متبادلين.
ويلخص الجرباوي ملاحظاته النقدية على اتفاق أوسلو بأنه أولاً: قدم لإسرائيل أهم وأكبر تنازل فلسطيني كانت تحلم به، وهو اعتراف الفلسطينيين بها وبحقها في الوجود وبالتالي منحها الشرعية. وثانياً: قبلت المنظمة تأجيل القضايا الجوهرية إلى مفاوضات الحل النهائي، ما يعني إخضاع الحق الفلسطيني للتفاوض. وثالثاً: لم تشترط المنظمة (أو لم تتمكن من فرض شرطها) على وقف الاستيطان، وربط تقدم المفاوضات بوقف الاستيطان. ورابعاً: قبلت المنظمة أن تبقى إسرائيل مالكة السلطة العليا أثناء المرحلة الانتقالية والتي مدتها خمس سنوات. وخامساً: أعطى الاحتفال في البيت الأبيض للتوقيع على الاتفاق انطباعاً لدى المجتمع الدولي بأن الصراع العربي الإسرائيلي قد انتهى، أو في طريقه للحل برضا وتوافق الطرفين، ما أدى إلى تراجع حركات المقاطعة ضد إسرائيل.. وسادساً: أدى الاتفاق إلى إيجاد شرخ عميق داخل المجتمع الفلسطيني بين مؤيديه ومعارضيه، وبالتالي اهتزاز الجبهة الداخلية، والتي أوصلت لاحقاً إلى الانقسام.
مع التفاؤل الفلسطيني بأن أوسلو ستقود إلى انسحاب الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية، إلا أنها كانت مغامرة تاريخية ومجازفة كبرى، يمكن القول إن القيادة الفلسطينية لم تجد بداً من خوضها، أو أنها أُجبرت على ذلك في ظل ظروف سياسية غير عادلة.
صادق الكنيست الإسرائيلي ثم المجلس المركزي الفلسطيني على الاتفاقية، ولدى كل طرف آمال وتوقعات وتفسيرات متباينة للاتفاقية؛ الفلسطينيون كانوا يرونها مدخلاً لنيل الحرية والاستقلال والتخلص من الاحتلال وإقامة الدولة.. بقراءة تضخيمية متفائلة.. الإسرائيليون أرادوا وضع أكبر قدر من التقييدات والمعيقات والتقليصات بحيث لا يؤدي الاتفاق إلى دولة، ويبقى أسير مفهوم الحكم الذاتي.
وقد جوبه الاتفاق بمعارضة شديدة داخلية لدى الطرفين: المستوطنون واليمين المتطرف من ناحية، وحركات المقاومة الإسلامية (حماس والجهاد) من ناحية أخرى.. وقد أدت هذه المعارضة في نهاية المطاف إلى إفشال الاتفاقية، وإفراغها من مضمونها، خاصة من جهة التوقعات الفلسطينية.
ثم يستعرض الجرباوي سلسلة المفاوضات التي جرت في مناطق عديدة ومتفرقة، والاتفاقيات التي أعقبت إعلان المبادئ، بهدف وضع الاتفاق موضع التنفيذ، والاتفاق على التفاصيل الإجرائية ونقل الصلاحيات، وإعادة الانتشار وغيرها، مثل اتفاق القاهرة، وأوسلو 2، واتفاقيات طابا، وواي ريفر، واتفاقية الخليل، وبروتوكول باريس الاقتصادي، وغيرها.
ويضيف الكاتب إن الاتفاقيات الموقعة كانت واعدة، لكونها انتقالية ومحدودة المدة الزمنية، ومتدحرجة في توسيع نطاق صلاحيات السلطة الفلسطينية جغرافياً وموضوعياً، ولكنها من الجانب الإسرائيلي جاءت لتستثني القضايا الأساسية (حق تقرير المصير، القدس، المستوطنات، اللاجئين، المياه، الحدود..) وتؤجلها إلى المرحلة النهائية (التي لم تأتِ بعد) هذا أولاً.
أما ثانياً: فقد قننت الاتفاقيات الولاية الجغرافية الفلسطينية وفقاً للصلاحيات المرتبطة بتجزئة الأراضي المحتلة إلى ثلاث مناطق (أ، ب، ج)، وثالثاً: احتفظت إسرائيل بالهيمنة الأمنية على كامل الأرض المحتلة، وفرضت على السلطة ضرورة التعاون والتنسيق الأمني معها، ورابعاً: ضمنت إسرائيل إلحاق الاقتصاد الفلسطيني باقتصادها، وبالتالي منعته من التطور والاستقلال. وبذلك وبموافقة منظمة التحرير ضمنت إسرائيل استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية، وهيمنتها على الاقتصاد الفلسطيني، وفي الوقت ذاته تخلصت من تبعية الوجود الفلسطيني عليها، وتمكنت من إيجاد سلطة محلية توظفها وكيلة لأعمالها تقوم عنها بما يجب أن يقوم به الاحتلال، الذي سيتحول إلى ظاهرة غير مرئية. وكان هذا أفضل ثاني خيار لإسرائيل، فالخيار الأول كان التخلص كلياً من الوجود الفلسطيني بطردهم.
والمشكلة أن هذه الاتفاقية رغم أنها مجحفة، ومعظم بنودها لصالح إسرائيل، إلا أن إسرائيل أخذت تتنصل منها، وتتلكأ في تنفيذ بنودها، وتتجاوزها، وتضربها عرض الحائط كلما أمكنها ذلك. وطبعاً لا أحد بوسعه منعها أو محاسبتها.
بعد انتهاء الفترة الانتقالية في أيار 1999، كان من المفترض أن تكون إسرائيل قد أكملت انسحابها من الأرض المحتلة، وبدأت المفاوضات المباشرة بشأن قضايا الحل النهائي.. في تلك الفترة كان إيهود باراك هو رئيس الوزراء، وقد جرت مفاوضات بين الطرفين برعاية أميركية مباشرة في كامب ديفيد في تموز 2000، كان يفترض أن تُنجز في ثمانية أيام، إلا أنها استغرقت 25 يوماً، وانتهت دون التوصل إلى اتفاق، وقد حمّلت أميركا وإسرائيل الجانب الفلسطيني مسؤولية فشلها. إلا أن السبب الحقيقي كان تمترس إسرائيل وراء اللاءات المعهودة، ووضعها الاشتراطات التي تريد من خلالها تأبيد حكم ذاتي مقلص لا يحصل فيه الفلسطينيون على حقوقهم الوطنية.. وبذلك وصلت التسوية إلى طريق مسدود، ولم يمضِ سوى شهرين حتى اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي جاءت هذه المرة أكثر عنفاً، ولم تنجح محاولات إنقاذ التسوية من خلال الضغوط الأميركية ودفع الطرفين للعودة للمفاوضات، عبر جولات مفاوضات طابا.. فقد أغلق الأفق السياسي، وجاء شارون للحكم، وبدأت مرحلة جديدة.
اندلعت الانتفاضة الثانية، وجاءت هذه المرة أكثر عنفاً، قدم فيها الفلسطينيون تضحيات جسيمة، بيد أن نتائجها السياسية جاءت وبالاً عليهم.. ومع استشهاد ياسر عرفات كانت الانتفاضة قد تحولت إلى نمط حياة ثقيل وصعب، وأخذت تخبو شيئاً فشيئاً، لتفتح مرحلة جديدة اتسمت بالركود والإيقاع البطيء على نحو غير مسبوق، فقد تحول الفعل الجماهيري الصاخب والجماعي إلى عمليات فردية، وهبات جماعية متفرقة، فيما توقفت المفاوضات كلياً، وأخذت إسرائيل تصعد وبشكل متسارع مشروعها القديم: الزحف البطيء باتجاه الضم والترانسفير الهادئ وتوسعة الاستيطان..
وربما تكون هذه المرحلة الأثقل على الفلسطينيين، خاصة مع صعود وهيمنة اليمين الإسرائيلي المتطرف، وبروز الانحياز الأميركي بوجهه السافر، ومع موجة التطبيع العربي.. وضعف الأداء الفلسطيني، بسبب الانقسام.. ومع ذلك، تظل المنطقة حبلى بالأحداث والمفاجآت.. طالما ظل الفلسطينيون قابضين على الجمر.