أنصح كلّ مراقب ومتابع ومهتم بشأن الأهل في الداخل، وبشأن ما آلت إليه الأوضاع لديهم في ضوء الارتفاعات المرعبة في جرائم القتل، ومستويات العنف والجريمة بقراءة، وإعادة قراءة ــ كما فعلتُ أنا ــ الورقة التي قدّمها الزميل والصديق أمير مخّول، والتي قدّمها كورقة سياسات إلى (المركز العربي للسياسات)، وصدرت عنه، ونشرها الأستاذ مخّول نفسه على صفحته، ووزّعها على نطاقٍ واسع نسبياً.
تنبع أهمية هذه الورقة من عدّة اعتبارات تجعل منها ورقة شاملة، تستند إلى الكثير من المعطيات والحقائق والوقائع والإحصائيات الرصينة، كما تتّسم هذه الورقة من حيث طرائق المعالجة والتحليل، ومن حيث التسلسل والسياق، بقدرةٍ كبيرةٍ على الربط المُحكم والسديد، والرصين، أيضاً، بين منظور الرؤى الشاملة، والممارسات والسياسات التي تؤكّد وتثبت العلاقات والصلات العضوية بين إستراتيجيات المشروع الصهيوني واستهدافاته لواقع وموقع جماهير شعبنا هناك.
حاول مخّول فيما يشبه [جردة حساب كاملة] مع الجريمة المنظمة في «الداخل» أن يثبت ــ وقد أثبت فعلاً ــ أنّ من يقف خلف هذه الظاهرة التي باتت تتعمّق وتستفحل يوماً بعد يوم، إعداداً وتخطيطاً، ومن زوايا معيّنة، تنفيذاً، أيضاً هي أذرع الأمن الإسرائيلية التي تقوم بدورها في إطار رؤى سياسية تشرف عليها أعلى المستويات في الدولة والمنظومة الصهيونية، بهدف ضرب وحدة وتماسك الجماهير الفلسطينية.
وقد أثبت مخّول من خلال ورقته المهمة أنّ عملية منهجية منظمة تقف خلف الجريمة المنظمة التي نشهد بعض فصولها المأساوية في كلّ يوم.
لعلّ الانطباع السائد لدينا جميعاً حول هذا التورط كان يحتاج فعلاً إلى جردة حساب كهذه حتى يتمّ قطع كل شكٍّ باليقين، وحتى لا نذهب إلى ما هو أبعد من المطلوب، أو نُلقي باللائمة على مسألة دون أخرى، أو نُخرج المسائل من جوهرها وسياقاتها وصلاتها، أو نبالغ في جلد الذات، والاستمرار في لعن الظلام، دون أن نتنادى لإشعال شمعة واحدة، وأن نركّز على الأخطار التي باتت تمثلها هذه الظاهرة على وحدة جماهير شعبنا في الداخل، خصوصاً أن محاولة إجهاض عملية النهوض والاستنهاض الوطني التي تمّت في العقد الأخير تحديداً كانت وما زالت تقابلها أزمة على أعلى درجات الاستفحال والاستعصاء بات يعاني منها المجتمع اليهودي في إسرائيل، وهي أزمة تترافق مع موجات متتابعة من المدّ والتحوّل نحو العنصرية والفاشية، ومع دعوات منظمة لقمع جماهير شعبنا في الداخل من قبل عصابات إجرام منظمة تتبع لـ»اليمين»، و»اليمين الفاشي» في إسرائيل، وبهذا المعنى فإن جماهير شعبنا في الداخل باتت على جدول الأعمال المباشر للمشروع الصهيوني في نسخته الفاشية الأخيرة.
وعندما نقارن معدلات الجريمة المنظمة بين المجتمعَين (العربي واليهودي في إسرائيل) نلاحظ الفروقات التي تشير وتدلّل بالأرقام والمعطيات على دور السلطة الإسرائيلية في إذكاء واقع هذه الجريمة.
ما زال عدد الفلسطينيين في الداخل دون رقم المليونَين، وهم ما زالوا حول نسبة الـ 20% من السكان، إذ يبلغ عدد اليهود في إسرائيل أقلّ قليلاً من السبعة ملايين، لكن المقارنة تبدو صادمة بين المجتمعَين فيما يتعلق بهذه الظاهرة تحديداً كما أوردها مخّول. إذ إن 50% من عدد السجناء الجنائيين هم من العرب، وقد تم فتح ما مجموعه 4% من ملفات الجنايات هذه، وبقيت الـ 96% منها من دون أي ملفات!
40 % من أعمال الابتزاز والرشوة والعنف قام بها عرب حسب المعطيات الرسمية على ما يبدو، ومعدل جرائم القتل في عموم إسرائيل 1,5% لكل مائة ألف من بينها 0,5 في المجتمع اليهودي مقابل 9,76% لكل مائة ألف في المجتمع العربي.
حوالى 29% من بين الشباب العرب الذين تتراوح أعمارهم بين سن الثامنة عشرة، والرابعة والعشرين من أصل 57 ألف شاب عربي هم من دون عمل أو تعليم، وهم عُرضةً لعصابات الإجرام التي «توفّر» لهم المال والسطوة، والكثير من وسائل الإغراء، وهم أكثر استعداداً من غيرهم للانخراط في هذه الظاهرة، كما يورد مخّول.
قامت إسرائيل بحملات «منظّمة» لجمع السلاح، وكان من نتيجة هذه الحملات أن تمّ جمع تسع عشرة قطعة سلاح من بين نصف مليون قطعة موجودة لدى أفراد وعائلات وجماعات من المجتمع العربي، وأكثر من 99% منها مهرّبة من مخازن الجيش الإسرائيلي.
وهذه مسألة أولى من مسائل التورّط الإسرائيلي في الجريمة المنظمة في الداخل، وهي مسألة فاقعة كما تلاحظون.
وهناك ما يكفي من الدلائل ــ والكلام كله لمخّول ــ أن العملاء الذين هربوا من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الداخل بعد عقد اتفاقيات أوسلو يلعبون دوراً «محورياً» في عالم الجريمة المنظمة، ويصل نفوذهم على هذا الصعيد إلى أعلى المستويات مع الشرطة و»الشاباك»، وأصبحوا يتمتعون بشبكة علاقات تمكنهم من إدارة عشرات مليارات الشواكل، وقد وطّدوا علاقاتهم بعالَم الأعمال والمقاولات والعطاءات، وهذه مسألة ثانية ساطعة عن حال التورّط الإسرائيلي في الجريمة المنظمة في الداخل.
بعض الاعترافات، والتي ما زالت [غيض من فيض] حول التعاون بين عصابات الجريمة و»الشاباك» بدأت تفصح عن آليات وشروط التعاون بينهما، بحيث تلتزم العصابات بحصر القتل والعنف في المجتمع العربي مقابل حماية «الشاباك» لهم أمام الشرطة والقضاء.
هذه الاعترافات خطيرة ومهمة، وهؤلاء هم شهود إثبات على جرائم لا يرقى إليها أي شك، وقد تتحوّل في المستقبل إلى أدلة إثبات ضد كامل المؤسسة الصهيونية لما ترمز إليه في سياسات عنصرية وفاشية مدعومة بالوثائق والحقائق المؤكدة.
وفي هذه الاعترافات من الدلائل على تورط المؤسسات الرسمية الصهيونية وبما هو ساطع وفاقع، وجامع ومانع وقاطع على جرائم مكتملة الأركان، وعلى كل المستويات وأعلاها تحديداً.
يربط الأستاذ مخّول، عن حقّ وجدارة، وعن رؤية ثابتة، أيضاً، بين ارتفاع منسوب التورّط الصهيوني في الجريمة المنظمة في الداخل وبين حالات النهوض الوطني، خصوصاً «هبّة أكتوبر»، و»هبّة الشيخ جرّاح»، ما يؤشّر ويدلّل على أن هذا المنسوب الذي نشهده في هذه الأيام ليس سوى حصيلة للبرامج التي أعدتها المؤسسات الصهيونية لتفتيت المجتمع الفلسطيني في الداخل، دون أن نغفل للحظة واحدة أن التهجير يكمن في صلب هذه البرامج والمخطّطات.
أمام هذه الحقائق والمعطيات التي أوردها مخّول في ورقته المهمّة، ما العمل؟
نعرف جميعاً أنّ كل أطراف الحركة الوطنية في الداخل تعكف على دراسة الكيفية التي يمكن أن تجيب بها عن هذا السؤال، الذي تحوّل إلى سؤال الأسئلة، والذي بات يقضّ مضاجع الأهل في «الداخل»، وهو يتحوّل مع كل جريمة تقع إلى شعورٍ بالإحباط، وإلى حالات يأس، وخوف، وأحياناً إلى رعبٍ حقيقي، وفقد الأمن والأمان، ووصلت الأمور إلى درجات أعلى وأقسى من ذلك، وأبعد وأعمق وأخطر مما يتمّ الإفصاح عنه، أو التعبير «العلني» عن آثاره وتبعاته.
إن كان لأحدٍ مثلي أن يدلي بدلوه في محاولة الإجابة عن هذا السؤال فإنّي أقترح النقاط التالية:
أولاً: لم يعد بالإمكان أن يتهرّب أحد من الإجابة عنه، أو المساهمة بمثل هذه الإجابة، وأن أي محاولة للتردّد أو التلكُّؤ على هذا الصعيد ستؤدي إلى انفضاض الناس من حول الحالة الوطنية.
ثانياً: لن يستطيع حزب أو حركة أو جبهة بمفردها أن تحاول هنا، لأن الموضوع قد تحوّل واقعياً إلى شأن وطني راهن ومُلحّ، ما يعني أنّ الجريمة المنظمة من زاوية مجابهتها والتصدّي لها تتحوّل موضوعياً، وتقفز إلى رأس جدول الأعمال الوطني.
ثالثاً: المواجهة ليست سوى مواجهة مجتمعية، وليست حزبية، حتى ولو أن الظاهرة الحزبية هي التي تتحمّل مسؤولية المبادرة والقيادة والريادة، والمعالجة مجتمعية، وليست سياسية بيروقراطية.
رابعاً: هي حالة تحدّ نعم، لكنها ــ كما أرى ــ فرصة لإعادة توحيد المجتمع حول القيم الوطنية، وحول الهوية، وحول مجابهة المشروع الصهيوني، ويجب أن يتمّ تحويل كل من تورّط في «العالم السفلي» إلى دائرة الحصار والنبذ الاجتماعي، وتحويله إلى حالة عارٍ اجتماعي لا يلقى أي حماية عشائرية أو حمائلية أو حتى أسرية، وهنا سيكون المجتمع قادراً على الدفاع عن نفسه، وعلى حماية تماسكه وإحباط مخطّطات استهدافه.
الجريمة باتت تساوي خيانة الوطن، وخيانة المجتمع، والوطن كلّه في الداخل وفي الضفة والقطاع وفي الشتات مطالب بالتصدي المشترك لهذه الخيانة.
خرجت الجريمة عن دائرة الجهل والتخلّف، والعادات والتقاليد البالية، ودخلت في خانة المسألة الوطنية، ولهذا من هنا يجب أن نبدأ.