"إنها ضربة في الظهر".
كان ذلك توصيفاً أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التمرد العسكري الذي قادته قوات "فاغنر"، الشركة العسكرية الخاصة، التي نشأت تحت عباءته.
كل شيء مضى مفاجئاً وسريعاً، لم تتوقع أجهزة الاستخبارات الغربية أن يحدث مثل هذا التمرد، أو أن تهتز صورة الجيش الروسي وسلطة بوتين نفسه على هذا النحو الذي رآه العالم قبل أن يتقوّض التمرد بمصالحة رعاها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو.
في لحظة بدا سيناريو الصدام المسلح بين الجيش و"فاغنر" غير مستبعد على أبواب موسكو، كأنه هدية عسكرية وسياسية لحلف "الناتو" تُلحق بروسيا هزيمة إستراتيجية لم تتحقق في ميادين القتال الأوكرانية.
وفي لحظة أخرى سرت تصورات أن كل شيء جرى ترميمه، التمرد أُنهي دون صدام بالسلاح، وقائده غادر إلى بيلاروسيا، وبوتين أكد سلطته تحت قباب الكرملين.
الحقيقة أنه يصعب ترميم الشروخ العميقة التي كشفها التمرد المسلح في أي مدى منظور.
شروخ في أوضاع الجيش ومستوى أهلية وكفاءة قياداته العليا، وشروخ في المسؤولية السياسية وصناعة القرار في دولة كبرى مثل الاتحاد الروسي.
بأي نظر موضوعي الشرخان مترابطان ويصعب الفصل بينهما، شرخ واحد في حقيقة الأمر.
أخطر ما انطوى عليه تمرد "فاغنر" التشكيك في شرعية ما أطلق عليها "العملية العسكرية الخاصة"، هل كانت ضرورية لحفظ الأمن القومي الروسي كما يرى بوتين، أم أنها كانت خطأ في التقدير السياسي والتخطيط العسكري حرضت عليه مجموعة ضيقة حول الرئيس الروسي على ما قال يفغيني بريغوجين" مؤسس الميليشيا المسلحة.
إذا لم يتحسن الأداء العسكري، فإن الثقة العامة في قرار الحرب سوف تتقوض تماماً.
بقوة الحقائق طالت الحرب الأوكرانية، واستنزفت أطرافها المباشرة وغير المباشرة، وامتدت تأثيراتها الكارثية إلى العالم بأسره دون أفق سياسي لأي تسوية ممكنة.
بحسابات السياسة والسلاح، فإن ما يطلق عليه "الهجوم الأوكراني المضاد" يكتسب خطورته من أن نتائجه قد ترسم الخطوط العريضة في مصير الحرب.
بالضبط نحن أمام الجولة قبل الأخيرة قبل الذهاب لتسوية شبه محتمة في نهاية المطاف.
قبل تمرد "فاغنر" كانت صورة الموقف العسكري على النحو التالي:
إذا ما نجحت القوات الأوكرانية في إحداث اختراقات يعتد بها في ميادين القتال، فإن ذلك سيكون داعياً لمزيد من التسليح والتدريب وضخ الأموال الغربية في الشرايين الأوكرانية على أمل إلحاق هزيمة إستراتيجية بموسكو والحفاظ على مقومات النظام الدولي الحالي، الذي تنفرد بقيادته الولايات المتحدة منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي.
لم يكن هناك ما ينبئ بتغييرات ميدانية يعتد بها في معادلات القوة على الأرض، وكانت تلك معضلة ماثلة أمام صناع القرار في حلف "الناتو".
أما إذا أخفق الهجوم المضاد في تحقيق أهدافه المعلنة، أو توقفت اختراقاته عند حدود جزئية، كما هو حادث الآن، فإن ذلك سيكون داعياً لطرح سؤال الجدوى على الاقتصادات الغربية المنهكة وتبدأ الضغوطات المضادة من داخل القارة الأوروبية، والولايات المتحدة نفسها، لإنهاء الحرب والبحث في وسائل أخرى غير الاستغراق في المستنقع الأوكراني.
في أوضاع الاستنزاف المتبادل لا يستبعد الطرفان المتصارعان، روسيا وحلف "الناتو"، سيناريو التسوية السياسية، غير أن كليهما غير مستعد أن يسلم بهزيمة مبكرة، أو أن يقبل باشتراطات الطرف الآخر.
إنه الصراع على مستقبل النفوذ والقوة في عالم يتغير.
الحرب غير محتملة، هذا صحيح، لكن التسليم بالهزيمة كارثة إستراتيجية كاملة.
السيناريو الأرجح أن تمتد الحرب إلى جولة أخيرة بعد انقضاء الجولة الحالية، قبل الحديث جدياً في فرص وسيناريوهات التوصل إلى تسوية سياسية وفق موازين القوى على الأرض.
يستلفت النظر في الجولة قبل الأخيرة دخول الرئاستين الأميركية والروسية على خط حروب الدعايات، قبل أن تستولي "فاغنر" على المشهد الإعلامي العالمي كله.
جو بايدن كاد يزاحم وزير خارجيته أنتوني بلينكن في التعليق على مجريات الحوادث بالحرب الأوكرانية، وما حولها من صراعات وصدامات سياسية واقتصادية.
ربما أراد أن يقول: "أنا قادر تماماً على صنع القرار وتحمل مسؤولية الدفاع عن المصالح الأميركية العليا"، غير أنه أمر بألا يصدر عن أي مسؤول أو دبلوماسي أميركي أي تعليق على تمرد "فاغنر" حتى لا تكون مادة يستخدمها بوتين لكسب معركة وجوده.
وفلاديمير بوتين كاد يزاحم المتحدثين العسكريين الروس في التعليق على جولة القتال الحالية.
ربما أراد أن يقول: إن قبضته محكمة على القرارين العسكري والسياسي في الكرملين، وإن الهجوم المضاد سيفشل لا محالة، ملوحاً بالخيار النووي إذا ما تهددت حدود الدولة الروسية.
بعكس بايدن زاد معدل حضوره الإعلامي بعد التمرد العسكري واصفاً الذين قاموا به بـ"الخونة".
دفع بوتين ثمناً باهظاً من هيبته الشخصية برهانه على بناء جيش موازٍ مُوالٍ له من المرتزقة بعد عام (2014) إثر استعادة شبه جزيرة القرم، وروسيتها ثابتة تاريخياً.
لعبت "فاغنر" دوراً مؤثراً خارج روسيا شاملة دولاً في أفريقيا والمنطقة العربية ودوراً أكثر أهمية في حسم الصراع على باخموت المدينة الأوكرانية الإستراتيجية بعدما فشل الجيش في حسمها.
بعكس قواعد الانضباط العسكري، أطلق مؤسس "فاغنر" اتهامات خطيرة لقيادة الجيش دون أن يتدخل بوتين، خشية إغضاب أي طرف، وكانت النتيجة إفلات كل الخيوط من يده، لا قيادة الجيش تحدثت أثناء ساعات الأزمة، كأنها اختفت من الوجود، ولا قيادة "فاغنر" أبدت احتراماً لتوجيهاته، وتحداه مؤسسها أن روسيا تحتاج رئيساً جديداً.
وصلت قمة المأساة الروسية عند سيطرة ميليشيا من المرتزقة على المنطقة العسكرية الجنوبية في روستوف دون مقاومة.
رغم مشاعر البهجة المعلنة والمكتومة في الغرب، لم يكن هناك تقدم عسكري أوكراني كبير يستثمر في الاضطراب الشديد الذي ضرب القوات الروسية.
التداعيات ما زالت في أولها.. تطور بعد آخر وجولة بعد أخرى تؤكد الحقائق نفسها في الحرب الأوكرانية. إنه صدام على المصالح والنفوذ وأحجام القوة في عالم يتغير، وقد كانت أوكرانيا مسرحاً مختاراً لاختبارات القوة لا جوهر الصراع نفسه.
بمعنى آخر، يدفع الشعب الأوكراني الثمن فادحاً لحرب نظام دولي استهلك زمنه وقدرته على البقاء.
الحسابات الخاطئة أطالت المعاناة الأوكرانية، لا روسيا لحقت بها هزيمة إستراتيجية، ولا الغرب سلّم للسلاح الروسي بمطالبه الأمنية.
رغم التصعيد حافظ الطرفان الدوليان بدرجة أو أخرى على قواعد الاشتباك.. "الناتو"، رغم اندفاعه تسليحاً وتدريباً وتخطيطاً وإمداداً استخباراتياً، يحرص على نفي انخراطه في الحرب.
روسيا تلمح إلى ذلك الانخراط دون إعادة توصيف للحرب كصدام مع "الناتو"، فلكل توصيف حساباته وتكاليفه.
بمقتضى الأحوال الراهنة تلوح روسيا بأن سلامة أراضيها خط أحمر حتى كادت أن تدخل في احتراب أهلي داخل عاصمتها موسكو.
الورقة النووية حاضرة في المشهد المتأزم كـ"عنصر ردع"، يلوّح به دون استخدامه، لكن قد يفلت الزمام في سيناريو أو آخر.
بافتراض شبه مستحيل لكنه طرح نفسه: ماذا يحدث إذا ما تمكنت "فاغنر" من السيطرة على المخزون النووي الروسي؟
الغرب أقلقه السؤال.. والقيادة الروسية، على لسان نائب رئيس مجلس الأمن القومى ديمتري ميدفيديف، قالت: "لن نسمح".. دون أن توضح كيف؟
الحقيقة الكبرى في المشاهد المضطربة أن النظام الدولي القديم تهالك تماماً، وسقوطه مسألة وقت بصرف النظر عن الطريقة التي سوف تنتهي بها الحرب الأوكرانية.