أكاد لا أصدق أن المنظمة الدولية التي قضيت الجزء الأساسي من عمري المهني فيها، تنزلق إلى هذا المستوى من الانحطاط الخلقي والانحراف السياسي عندما يتعلق الأمر بممارسات الكيان الصهيوني التي تصل إلى حد التطهير العرقي والإبادة الجماعية، فتقدم للكيان غطاء وراء غطاء ومبررا وراء مبرر فيما يقوم به من جرائم. وآخر تلك السقطات الخلقية المدوية جاءت في تقرير فرجينيا غامبا الممثلة الخاصة للأمين العام للأطفال والنزاعات المسلحة، الذي أطلقته يوم الثلاثاء الماضي حول الانتهاكات الجسيمة التي تلحق بالأطفال في مناطق النزاعات. هذا لا يعني أن المنظمة الدولية كانت تحمل السيف وتقاتل من أجل فلسطين لكنها كانت، على الأقل، تتغطى بورقة توت القانون الدولي، ونصوص الميثاق وقرارات الشرعية الدولية. لكنها بدأت تنحدر إلى القاع منذ انتخاب الأمين العام بان كي مون، الذي أطلق عليه (الأمين العام القلق أبداً).
لكن يا ليت بقيت الأمور في عهد الأمين العام الحالي، البرتغالي المخضرم أنطونيو غوتيريش، حتى على المستوى نفسه من التراجع والتخاذل والتملص من المواقف الشجاعة والقوية عندما يتعلق الأمر بمعاناة الفلسطينيين، بل زادت الأمور سوءا بسبب اختياره للأشخاص الذين ينطقون باسم المنظمة ويمثلونها في الأرض الفلسطينية المحتلة، وانصياعه للإملاءات الأمريكية، خاصة أيام سفيرة الولايات المتحدة نيكي هيلي التي لم تكن حتى تراعي أصول الدبلوماسية، بل كانت تتبجح بأنها هي التي أمرت الأمين العام أن يسحب ترشيح سلام فياض لمنصب المبعوث الخاص لليبيا فقط لأنه فلسطيني. وهي التي أمرت غوتيريش أن يسحب تقرير الإسكوا حول «نظام الفصل العنصري في إسرائيل» الذي أعدته ريما خلف حول ممارسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري، الذي يصف إسرائيل بأنها دولة أبارتهايد. أمر غوتيريش سحب التقرير فورا من موقع الأمم المتحدة، فرفضت ريما خلف بسبب قناعتها بصدق ما جاء في التقرير، ثم استقالت يوم 17 مارس 2017 بسبب هذا التصرف قائلة في رسالة الاستقالة: «أجد نفسي غير قابلة للخضوع إلى هذه الضغوط». الأدهى من ذلك أن بان كي مون عيّن البلغاري نيكولا ملادينوف منسقا لعملية السلام في الشرق الأوسط، وممثلا له لدى السلطة الفلسطينية في فبراير 2015 وبقي في المنصب لغاية ديسمبر 2020 وما أن هللنا لرحيله لكثرة الخراب الذي ألحقه بعدالة القضية الفلسطينية، حتى قام غوتيريش بتعيين النرويجي تور وينسلاند أحد مهندسي اتفاقيات أوسلو، الذي ما زال يجثم على صدورنا لغاية الآن. وهذا الأخير لا يترك مجالا إلا ودس السُم في تقاريره وبياناته وتغريداته الملغومة، التي تضع الجرائم الإسرائيلية ضمن سياق يبررها، بينما يصف ما يقوم به الفلسطينيون من أعمال نابعة من يأس وإحباط بالإرهاب ويدينها بأقوى العبارات.
من الجزائرية ليلى زروقي إلى الأرجنتينية فرجينيا غامبا
المنظمة الدولية لم تكن تحمل السيف وتقاتل من أجل فلسطين لكنها كانت، على الأقل، تتغطى بورقة توت القانون الدولي، ونصوص الميثاق وقرارات الشرعية الدولية
في تقرير عام 2016 الذي يغطي أحداث 2015 وضعت الممثلة الخاصة للأمين العام للأطفال والنزاعات المسلحة، اسم دولتين على القائمة السوداء التي تضم تلك الدول والمجموعات والميليشيات والجيوش التي تنتهك حقوق الأطفال في المعايير الستة (القتل، الإصابة والتعطيل، التجنيد، مهاجمة المدارس والمستشفيات، الخطف والتعذيب والانتهاكات الجسدية، ومنع وصول المساعدات الإنسانية). والدولتان هما إسرائيل ودول التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية. أما عن إسرائيل فتم سحب اسمها من قبل الأمين العام بان كي مون، قبل أن يصل التقرير أيادي أعضاء مجلس الأمن، تحت ضغط أو تهديد من الولايات المتحدة، بينما قام السفير السعودي عبد الله المعلمي، بتهديد الأمين العام بإلغاء المعونات السعودية كافة للبرامج الإنسانية بما في ذلك 50 مليون دولار لوكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إن لم يسحب اسم السعودية والتحالف من التقرير. وبالفعل تم ذلك. وتم نقل ليلي زروقي من المنصب وأسند إلى فرجينيا غامبا التي كانت تشغل منصب تدمير الأسلحة الكيميائية في سوريا. أعيد إدراج اسم التحالف بعد ذلك الحادث لسنوات ثلاث، إلا أن إسرائيل ظلت تتمتع بالحماية وعدم إدراج اسمها في القائمة السوداء، لكن الغريب أن تقرير 2022 الذي غطى سنة 2021 وحرب غزة التي استمرت 11 يوما واستشهد فيها المئات، بمن فيهم نحو 80 طفلا، لم يدرج اسم إسرائيل بحجة أن الممثلة الخاصة ستقوم بزيارة للمنطقة للاطلاع على الأوضاع وتقديم توصيات للأطراف المعنية والالتزام بمجموعة إجراءات لحماية الأطفال. قامت غامبا بزيارة لفلسطين المحتلة بما فيها غزة والقدس وإسرائيل بين 16 و21 ديسمبر 2022 والتقت بعائلات الأطفال الضحايا، واطلعت على الأوضاع هناك والتقت بمسؤولين فلسطينيين في رام الله وغزة، بمن فيهم حماس والجهاد. وتفاءلنا خيرا بأن إدراج إسرائيل أمر مؤكد بعد ما شاهدت بأمّ عينها. هذا العام لم تجد ما تبرر به إبعاد إسرائيل عن القائمة السوداء، إلا تعاونها مع السيدة غامبا واستقبالها في تل أبيب وأن عدد الغارات الجوية ضد المدنيين انخفضت من 598 غارة عام 2021 إلى 52 عام 2022. هل هناك أوقح من هذا العذر. فلماذا لم تدرج في القائمة عندما شنت تلك الغارات. وكيف تبرر السيدة غامبا كون إسرائيل الأكثر انتهاكا لحقوق الأطفال، وهي من أهم خمس دولة تنتهك حقوق الأطفال، وحسب التقرير هي الكونغو (3377 )، إسرائيل ( 3133)، انتهاكات تتوزع على جميع المعايير الستة ثم الصومال (1883) فسوريا (2483) فأوكرانيا (2334) فأفغانستان (1797)، فكيف يمكن إدراج جميع الدول الخمس إلا إسرائيل؟ والأغرب أن غامبا دائما تتحدث عن الإجراءات الطويلة والمعقدة التي تستغرق أحيانا سنوات لتتأكد من الانتهاكات. لكننا لم نجد هذه الإجراءات تأخذ وقتا طويلا في حالة روسيا وانتهاكاتها في أوكرانيا. إن إدخال روسيا بهذه السرعة وإقصاء إسرائيل من القائمة يدخل الأمم المتحدة ومسؤوليها قائمة العار أكثر من الدول التي تحميها. وماذا عن المجموعات والميليشيات التي أدرجت في القائمة ولم ترتكب عشر ما ارتكبه هذا الكيان الفاشي؟ فهل جماعة أبو سياف في الفلبين، وجماعة أهل السنة في تشاد والدولة الإسلامية في بوركينا فاسو وجيش التحرير الوطني في كولمبيا ارتكبوا من الفظائع والقتل والتعطيل والخطف أكثر من الكيان. هل هناك دولة في العالم تعتقل 852 طفلا وتحاكم بعضهم في محاكم عسكرية، وتبقي بعضهم مددا طويلة رهن الاعتقال دون محاكمة ولا تسريح؟ كل هذه الجرائم لم تكن كافية لإدراج الكيان في قائمة العار لأن عدد الغارات انخفض كثيرا، أي خطل واستخفاف بالعقول أكثر من هذا؟
التصعيد الأخير في جنين ونابلس ومستوطنة عاليي
إن تعامل تور وينسلاند، مع التصعيد الأخير يثبت إلى أي درك انحدر موظفو الأمم المتحدة بتوجيهات من كبيرهم الذي علمهم السحر، والذي يتجنب دائما إزعاج الولايات المتحدة لدرجة أن السفير الروسي فاسيلي نيبنزيا، اتهمه بأنه غير محايد. فرد فعل وينسلاند على اقتحام المستوطنين لبلدة ترمسعيا مساء 20 يونيو استخدم المصطلح «أدين بشدة أحداث العنف» التي قام بها المستوطنون المنفلتون (أو المتمردون)، كي لا يضم جميع المستوطنين. فهو عنف وليس إرهابا في رأيه فحرق البيوت والسيارات والمدارس وسيارات الإسعاف وترويع السكان، وقتل شاب بطريقة همجية، كل ذلك عنده «عنف». أما عندما قام فلسطينيان باستهداف أربعة مستوطنين يعيشون بطريقة غير شرعية في مستوطنة غير شرعية اسمها عليي، فماذا كان رد فعل وينسلاند؟ قال في بيانه يوم الحادث: «إنني أدين بكل قوة أشكال الإرهاب كافة ضد المدنيين». فالمستوطنون لديه مدنيون، والمقاومة الشرعية للفلسطينيين إرهاب، أما الإرهاب الصهيوني ضد عشرات القرى فهو عنف. فهل هذه حيادية الأمم المتحدة؟ بل راح المتحدث الرسمي يدافع عن هذا البيان ويصف المستوطنين الذين لا ينتمون إلى ميليشيات منظمة بأنهم مدنيون. وللعلم فالأمم المتحدة تاريخيا لم تكن تدين استهداف الجنود الإسرائيليين ولا المستوطنين، إذا حدث الاشتباك في الأرض المحتلة قبل وصول بان كي مون، لأن القانون الدولي واضح: الاحتلال غير شرعي، مقاومة الاحتلال شرعية. حدثت في كل أنحاء العالم وتوج المقاومون لقوى الاحتلال والاستعمار والإمبريالية والفصل العنصري، أبطالا تقام لهم التماثيل وتسمى بأسمائهم الجامعات والمطارات والشوارع والمعالم، إلا في الحالة الفلسطينية يريدون أن تجرم المقاومة الفلسطينية وتوصم بالإرهاب، كي يسهلوا على إسرائيل ابتلاع الأرض وطرد السكان منها وإقامة دولة يهودية خالصة من النهر إلى البحر، كما جاء في تعريفهم لهوية الدولة عام 2018.
لكن علينا أن نعترف أخيرا أن اللوم لا يقع على الأمم المتحدة فحسب، بل أيضا على من سوقوا وهم الدولة المستقلة وسلام الشجعان وعملية السلام وحل الدولتين. ألم يحن الوقت للخروج من هذا الوهم والعبث الذي أوصل
القضية إلى حافة الهاوية التي تمر بها الآن؟
* محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي