الآلة الجهنمية: كيف تخلق الرأسمالية فرانكشتاين؟

حجم الخط

يبقلم حيى مصطفى كامل

 

 

لما كانت الأشياء تحدث لأسبابٍ، وليست وليدة الصدفة العارضة، فلعله من اللافت جداً أن يتصادف اللغط والحديث والتعبير عن المخاوف من خطورة الذكاء الاصطناعي وإمكانية، أو قدرته على التغول على العنصر البشري، مع ما احتله المشهد الروسي من صدارة الأحداث، ومن ثم الاهتمام في الآونة الأخيرة.
في الحقيقة لم تبعد روسيا كثيراً عن دائرة الضوء طيلة العام الماضي بعد قيامها بالتعدي على السيادة الأوكرانية في ما تم تعميدها بـ»العملية العسكرية الخاصة»، التي أُريد لها وانُتظر منها أن تكون خاطفةً كالبرق، مروعةً، قاصمةً قاطعةً كالسكين، تفصم وتنهي أي مهاترات. كان من المفترض أن تكون رسالةً للغرب، وإعلاناً للعالم أجمع بأن العملاق الروسي قد نهض تماماً من عثرة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، فاستعاد تماسكه ورمم بناه، وشحذ اقتصاده وآلته العسكرية.
لكن الواقع أتى بنتيجةٍ مغايرة تماماً، فعوضاً عن «الخطف» جاء سير المعارك كسيحاً ممطوطاً، رغم مئات الآلاف من الجنود وأطنان السلاح التي ألقت بها روسيا في أتون هذه المعركة، وعوضاً عن التقرير النهائي بقوة روسيا الفائقة ومنعتها، فقد أثارت الحرب العديد من الشكوك في حقيقة قوتها العسكرية، وجودة سلاحها، ومدى كفاءة وجدية وتدريب قواتها؛ رُب قائلٍ بأنه لولا الدعم الذي تلقته أوكرانيا من الغرب لما استطاعت الاستمرار والصمود والتصدي، إلا أن هذه الحجة بليدة بعض الشيء في حقيقة الأمر، فلا بد أن هذا كان مُتوقعاً، وحُسب له حساب منذ البداية، فبالتأكيد لم يكن الغرب ليترك روسيا تتمدد هكذا، مبتلعةً المزيد من الأرض دون أن يحاول عرقلتها وإرهاقها وتكبيدها الخسائر، وإيقافها ما تمكن من ذلك.

الظاهرة الأخطر والأهم هي ما تشكله عملية تمرد فاغنر من بادرة لما قد يحمل المستقبل المزيد منه، ألا وهو انفلات أدوات العنف من سيطرة الأنظمة التي خلقتها

ولا يعني ذلك أن نتيجة الحرب قد حُسمت، وأن خسارة روسيا صارت وشيكة، على العكس تماماً من ذلك، فقد علمتنا دروس التاريخ أنها بلدٌ وفير الموارد وذو قدرة فائقة على الاستمرار في الحشد وتحمل الخسائر البشرية والصبر حتى النصر النهائي، وإن كان بتكلفةٍ عالية؛ غاية ما هنالك، توخياً للدقة، أن الأداء حتى الآن جاء دون المستوى، وأثار من الأسئلة والشكوك أكثر مما بعث من الثقة والانبهار. لكن لا يخفى على أحد أن أحداث تلك الحرب أخذت منحىً مغايراً، ومدهشاً بذلك التمرد المباغت الذي قاده بريغوجين، فانقلابه ثم زحفه السريع، الصاعق بحق، صوب موسكو، حيث سيطر على مدينتين وأسقط قرابة الست طائرات دون مقاومة تذكر، ثم توقفه المباغت أيضاً وخروجه إثر الصفقة التي أبرمها لوكاشنكو، كل ذلك يصلح مادةً لروايات الواقعية السحرية، أو حوليات جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية، أو حكايات التمرد في تاريخ روسيا القروسطي. يجوز أن بريغوجين، «طباخ الرئيس»كما عُرف في روسيا، قد أعرب في مراتٍ سابقة عن سخطه على المؤسسة العسكرية الرسمية، وربما بلغ طرفٌ من نواياه بعض أجهزة المخابرات، إلا أنني أزعم أن أحداً من العامة، أو المراقبين غير المتصلين بهذه الأجهزة لم يكن يتوقع انعطافاً حاداً كذلك، من شخصٍ هو في نهاية المطاف «صنيعة» بوتين، من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، رجله الذي قربه وصعده مذ التقيا حين كان بوتين رئيساً للهيئة المشرفة على محال القمار و»الكازينو». لكن بطبيعة الأشياء ولغرابة الحدث وخطورته ومن ثم جاذبيته الخاصة، فقد صار «الوجبة» الرئيسية في كل وسائل الإعلام الإخبارية، واحتل قسطاً لا بأس به في كل صحف العالم وبرامج التحليلات، ربما بما يطغى على الشأن المحلي الأكثر إلحاحاً واتصالاً بالواقع اليومي المعيش للمواطنين في بعض الدول، غير أن ذلك لا يعود لمجرد توفر كل «توابل» التشويق فيه، من مفاجأة وغدر وسلاح وسرعة وانعطافٍ حادٍ وفضائح وأموال فحسب، بل لما يثيره من أسئلةٍ لدى المتابع العادي غير المتحيز على الإطلاق على سير المعارك ومستقبل الحرب ونوعية هؤلاء الأشخاص، بوتين وبصورةٍ أخص بريغوجين؛ بالإضافة إلى ذلك فهنالك الإمكانية الهائلة لتوظيف الحدث من قبل الغرب وإعلامه، للدعاية ضد بوتين ومحاربة المجهود الحربي الروسي على صعيد البروباغاندا والحرب النفسية.
من هنا، انطلق سيل التكهنات التي تتفاوت في مدى اعتمادها على معرفةٍ وبحث وعلمٍ حقيقيين، عن مردود ذلك وتبعاته على شخص بوتين والنظام الروسي، ومن ثم الحرب بين مؤكدٍ بحتمية سقوط الرجل، إن عاجلاً أو آجلاً من ناحية، وآخر يجزم بأن ذلك الحدث أو الفصل برمته لن يعدو أن يكون زوبعةً في فنجان في الطرف الآخر من الطيف. الحقيقة التي يخجل هؤلاء من الاعتراف بها أبسط من ذلك: إن أحداً لا يعرف ولا يستطع أن يتنبأ بثقةٍ (ما صدق مع نفسه) بتبعات ذلك المستقبلية على بوتين. قد يجتهد البعض، إلا أن الحيرة والضبابية يلفان المشهد برمته، ولا يتعارض ذلك مع توظيفه من قبل الغرب لمصالحه، كما أسلفنا.
ليس من شكٍ في أهمية الحدث وكونه أحرج بوتين ما عبر عن نفسه في غضبه، إلا أنه كما قد يرى البعض فيه علامةً على ضعفه الناشئ، وفقدانه السيطرة فإن البعض الآخر قد يرى فيه دليلاً على مقدرته الشخصية ونظامه على هزيمة واستيعاب أعتى العواصف. لكن يظل المنحى الأهم والأخطر، في نظري، غائباً بصورة لافتة عن التحليل والتعاطي الجاد، وهو المنحى الذي تبدأ الطريق أو طرف الخيط إليه بسؤالٍ جاد وبديهي: ألم يجد بوتين شخصاً أفضل من ذلك اللص المحكوم عليه، والذي قضى قرابة العقد من الزمان في سجون الاتحاد السوفييتي السابق، وخرج من ثم ليثرى من المغامرة في شتى المجالات والفرص التي أتاحتها السوق الاستهلاكية الناشئة عقب انهيار ذلك الكيان المترهل المنحط؟ والإجابة على هذا السؤال وحدها كفيلة بتوسيع ذلك الشق أو تلك «الفُرجة» التي نقرها بريغوجين بتمرده في جدار نظام بوتين: هذه الصفات وتلك المسيرة الغارقة في الأعمال التي لم يخلُ جلها من الشبهات طيلة الوقت تحديداً، هي التي قربته لبوتين فساعد على تمكين ذلك اللص الذي بدأ كبائع نقانق في السوق؛ هذه العينة تحديداً هي التي يريد، والتي يعتمد عليها نظامٌ كهذا في الاستمرار والقيام بشغله القذر، ولم يتبد ذلك أكثر من دوره في قوات فاغنر الدموية سيئة السمعة جيدة التدريب: قاطع طريق مرتزق، مغامر، محتال ولص. كما أن السبب وراء ذلك بسيطٌ أيضاً: فهذا النظام، في حقيقته وصلب تكوينه، أياً كانت توهماته الأيديولوجية القومية المتطرفة، هو نظام ديكتاتورية بوتين وطغمة المتحلقين حوله مصلحة من أردأ أنواع المنتفعين من الذين حازوا ثرواتٍ فاحشة في زمنٍ قياسي، من ابتلاع حطام الاتحاد السوفييتي وشتى الأنشطة المشبوهة والقذرة، وهم جميعاً يتحصنون وراء آلة عسكرية وأمنية ضخمة وقاسية. ربما كان من الأسهل التعرف على شخصية قاطع الطريق اللص الأفاق في بريغوجين بسحنته الكئيبة التي لا تسر ناظراً، إلا أن بوتين وسائر رجاله، وراء الهيئة المنمقة والألمع نوعاً ما والأقل فظاظةً في المظهر والسلوك والكلام، أي وراء قشرة التحضر الظاهرية، ليسوا غير ذلك، قاطعي طريق ومجرمين أيضاً، فبوتين، للتذكير، لم يتورع أو يتردد عن التخلص من معارضيه بالقتل ضرباً بالرصاص أو بالسم مسخراً أجهزة الدولة، والأمثلة عديدة، وقد أنشأ قوات فاغنر تلك التي جُند لها الرجال من مخلفات الحروب والسجون لإطالة يده ومد نفوذه خارج روسيا في مناطق أخرى في العالم، كالشرق الأوسط مثلاً، ووحدها الأيام ستكشف كم الفساد المالي المصاحب لذلك النشاط القذر والدموي الإجرامي.
وفي هذا السياق لا بد من التذكير بالأنظمة الشبيهة، ولعل أقربها للذهن ولواقعنا النظام السوري، ودور حثالة المدن في الشبيحة، والنظام المصري مع البلطجية في الانتخابات (والمقبل أسوأ بالمناسبة)، ولا يعني ذلك أن الديمقراطيات الغربية بعيدة عن ذلك؛ كل ما هنالك أن التغطية أكثر إحكاماً وأناقة، والطبقات التي تعزل بين الحكام وتلك المجموعات أكثر بعض الشيء بما يميع الحقيقة والوقائع، ناهيك عن كون الإعلام لا مصلحة له في النبش وتسليط الضوء عليها بالصورة نفسها. لكن الظاهرة الأخطر والأهم هي ما تشكله عملية التمرد من بادرة لما قد يحمل المستقبل المزيد منه، ألا وهي انفلات أدوات العنف من سيطرة الأنظمة التي خلقتها، كفرانكشتاين تماماً. إن ماكينة الدولة الرأسمالية، خاصةً في الطبعة الروسية وأشباهها، تلك الماكينة الجهنمية، للحفاظ على السيطرة والمكاسب، خلقت وتخلق مسوخاً أفضل تدريباً وتسليحاً، متجردين من أي وازع، قتلة محترفين، للحفاظ على سطوتها ومكاسبها، لكن في لحظةٍ فارقة، لحظة تعارض مصالح وصدام، تنفلت وقد تسيطر. بالطبع لزم التذكير بأننا رأينا شيئاً قريباً من ذلك في مصر، وإن في نموذجٍ أصغر وهي تجاوزات جهاز الشرطة ومقتل خالد سعيد، الذي لعب دوراً مهماً في التمهيد إلى انفجار ثورة 25 يناير. كما أن للرأسمالية سابقة خطيرة وكارثية أيضاً حين تحالفت مع النازية. ختاماً فإن تلك الأحداث الكاشفة تؤكد أن البشرية لا يهددها فقط الذكاء الاصطناعي في المستقبل البعيد، حيث إن للأنظمة مصلحةٌ مباشرة في السيطرة عليه، وإنما في المستقبل القريب تلك المسوخ التي تخلقها للحفاظ على مكتسباتها ومصالحها، وأن كلاهما، في الحساب الختامي ومع اختلاف السحن والأسلوب، لم يزالوا حفنة من اللصوص المسلحين.
كاتب مصري