هل حقا كان هناك انقلاب في «موسكو»؟ وهل تمرد يفغيني بريغوجين قائد جماعة «فاغنر» على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟ لا يبدو من جواب واضح وقاطع، رغم زحام الأخبار والتحليلات المنشورة في كل الدنيا، ورغم تدفق صور أرتال «فاغنر» إلى مسافة 200 كيلومتر جنوب العاصمة موسكو، بعد أن سيطرت على مقر القيادة العسكرية الجنوبية في مقاطعة «روستوف»، وبعد أن جلس بريغوجين مع قادة عسكريين كبار عند باب القيادة، هم يحادثونه بهدوء، بينما يرفع قائد «فاغنر» صوته، وهو يرد عليهم بلهجة آمرة، ويطلب تسليمه وزير الدفاع سيرجي شويغو، ورئيس الأركان الجنرال فاليري غيراسيموف، ربما ليحاكمهما أو يقتلهما، أو يعلقهما على مشنقة في الميدان الأحمر، وإلى غيرها من تصريحات صاخبة، سبقت تحرك قواته العاصف، بدءا من السابعة صباح السبت 24 يونيو 2023 إلى ساعات المساء، التي انتهي عندها كل شيء، وسحب بريغوجين قواته كلها في دقائق، ومن دون أن يتعرض لها أحد، ولو بطلقة رصاص طائشة، لا في الذهاب ولا في الإياب.
وقد لا تكون القصة كلها مسرحية مصنوعة، وإن لم تخل الوقائع الحاكمة فيها من «تمسرح»، بدا دور البطولة الظاهر فيها معقودا لقائد «فاغنر» الزاعق المتعجرف، بينما البطل الحقيقي هو الرئيس بوتين، الذي حصد تعاطف الداخل الروسي في أغلبه، وأدار اللعبة كلها بدهاء واثق، وأرغم بريغوجين على سحب لسانه، وكان الأخير قد أعلن ما يشبه الحرب على بوتين نفسه، وأعرب عن خيبة أمله من خطاب بوتين الأول المتشدد، الذي اتهم بريغوجين وجماعته صراحة بالخيانة العظمى، ثم راح يدير التفاصيل في الخفاء، ويسمح لرجله الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بإبلاغ بريغوجين باتفاق عاجل، قضى بأن يذهب بريغوجين إلى بيلاروسيا، وأن ينتهي «التمرد» المعلن، وهو ما نفذه بريغوجين فورا، وبدعوى الحيلولة دون سفك الدماء الروسية، وقبل أن يغادر إلى المنفى البيلاروسي الصوري، صدر عنه شريط صوتي، نفي فيه أنه كان يريد الانقلاب على السلطة الروسية، أو أنه كان يريد إزاحة بوتين الرئيس المنتخب كما قال، وإن أكد على كراهته لوزير الدفاع ورئيس الأركان، وقد بقيا في منصبيهما بعد كل ما جرى، وربما حتى إشعار لاحق قد يتأخر، فقد أراد بوتين أن يؤكد ما هو مؤكد، من أن الخيوط كلها في يده، وأن لا صوت يعلو فوق صوته، وعلى العكس تماما مما روجته وتروجه السياسة والدعاية الغربية، ومزاعمها المدفوعة بالتمنيات عن ضعف بوتين، ناهيك عن نشر قصص بدت مغالية في «الهطل»، من نوع هروب بوتين من قصر الكرملين، وقت تقدم قوات «فاغنر» إلى موسكو، وإعلان واشنطن عن تأجيل فرض حزمة عقوبات على «فاغنر»، وحتى لا يبدو أنها تدعم بوتين المتراجع خوفا من زحف «فاغنر»، وإلى حد بدت معه الدعاية الغربية، وكأنها فيلم مقاولات هابط، يصور روسيا كأنها دولة فاشلة ضائعة، انفكت عنها سلاسل الضبط والنظام العام، وتدفع واشنطن إلى مغازلة بريغوجين، الذي قد تذهب إلى جيبه «أزرار» الحقيبة النووية الروسية، ويصير سيدا للكرملين، وبيده قوة «الثالوث النووي» الروسي الرهيب، ثم كانت النهاية السريعة المفاجئة لما جرى، وكأنها «دش ثلجي» من أعماق برودة سيبيريا، أغرق تجهيزات الأفراح والشماتة والليالي الملاح في عواصم الغرب، التي أمرت أوكرانيا بتطوير «الهجوم المضاد» في اللحظة الذهبية الموهومة، وتوجيه ضربة قاضية للوجود الروسي في شرق أوكرانيا وجنوبها، وهو ما بدا كانسياق عبثي وراء سراب خادع، يحسبه الظامئون الغربيون بئر ماء فرات.
قد لا تكون القصة كلها مسرحية مصنوعة، وإن لم تخل الوقائع الحاكمة فيها من «تمسرح»، بدا دور البطولة الظاهر فيها معقودا لقائد «فاغنر»، بينما البطل الحقيقي هو الرئيس بوتين
إنها خيبة الغرب في فهم الداخل الروسي، وقد تكون لهم أعذار في صعوبة فك الشيفرات، ربما لغلبة أمنياتهم على الواقع، وربما لأن ألغاز روسيا معقدة في ذاتها، فالروس أنفسهم يرددون مثلا يقول «روسيا لا تفهم بالعقل»، فالبلد الأوسع مساحة بما لا يقاس على كوكب الأرض، والمتنوع في قومياته وأعراقه التي تناهز المئتين، قد يكون مغريا باختراقه وشد أطرافه الكونية، لكن صلابته رغم تنوعه المدهش، تأتى من قوة القبضة المركزية فيه، ومن صبره واحتماله الهائل لمكاره وهزائم، يخرج بعدها أقوى، وهو ما بدا في وقائع تاريخ حديث ومعاصر، من نوع قهره لحملة «نابليون» و»حملة هتلر»، ومع تفكيك إمبراطورية موسكو «السوفييتية» أوائل تسعينيات القرن العشرين، بدا أن قصة روسيا طويت للأبد، وأنها صارت فريسة للغرب، ولم يكد يمر عقد من الزمان، حتى راحت روسيا تنهض من كبوتها، وتشد عصبها المركزي مع قيادة بوتين رجل المخابرات الغامض، وفي أجواء المحنة فالإفاقة، كانت عصابات «الأوليغارشية» في الاقتصاد والسياسة والشارع، تبنى سلطات ظل مسيطرة، بدأ بوتين التخلص منها بذكاء ومكر وخداع، ولجأ إلى توظيف بعضها، أو التخلص التدريجي منها، وهو ما فعله مع كثير من حيتان روسيا بعد فوضى فترة بوريس يلتسين المخمور دائما، الذي صعد بوتين من تحت ذقنه، تماما كما تكونت ظواهر عصابات المافيا الروسية، ومليارديرات السلب والنهب، الذين دخل معهم بوتين في مراوغات فمعارك، وشيء من ذلك جرى في دراما علاقته مع بريغوجين، الذي كان مجرما بطبعه، وسجينا جنائيا في أواخر العهد السوفييتي، كان مدانا بجرائم سطو مسلح، وخرج للحرية مع سنوات الفوضى، وبنى سطوته «المافياوية» في مدينة سان بطرسبرغ، وهي مسقط رأس بريغوجين وشويغو وبوتين نفسه، وكان شويغو وزيرا في عشر حكومات توالت منذ أيام يلتسين، وتوثقت صلاته مع بوتين، الذي اصطفاه في مهمات خاصة، كان أبرزها توليته «وزارة الطوارئ» شبه العسكرية، ثم اختاره وزيرا للدفاع، رغم أنه ليس عسكريا من أصله، تماما كحالة قائد ومؤسس جماعة «فاغنر»، الذي يعرف بلقب «طباخ بوتين»، وبنى سلسلة مطاعم شهيرة، ذاع صيتها بعد حصولها على عقود توريد الأطعمة إلى قصر الكرملين في ما بعد، وصار بريغوجين الذي تضخمت ثروته بسرعة، رقما في معادلات بوتين وصديقا في الدائرة المقربة، ومن حملة أسرار الكرملين، وكلفه بوتين بإنشاء «فاغنر» كشركة أمنية، رغم أن القانون الروسي، لم يكن يسمح بإنشاء شركات عسكرية خاصة، وظل الوجود «العرفي» لقوات «فاغنر» يواصل صعوده، ويبني أسطورته منذ عام 2016، وراح نشاطها «العرفي» يتمدد بسرعة من الدونباس الروسي في أوكرانيا، إلى سوريا وليبيا وافريقيا الوسطى والسودان ومالي وغيرها، وإلى أن صارت عنوانا مشتهرا للنفوذ الروسي، تتكون جماعاته المقاتلة أساسا من نخبة عسكريين روس متقاعدين، إضافة لسجناء ومجرمين من عينة قائدهم بريغوجين، وخاضوا معارك مميتة في حرب أوكرانيا، لعل أبرزها جولات «مفارم اللحم» في سوليدار ثم في باخموت، وبما أغرى قائد «فاغنر» المدعوم من بوتين، أن يناطح بعض قادة الجيش الروسي نفسه، وأن يتخذ من شويغو وغيراسيموف موقفا صداميا، تدرج من نقد بدا متفقا عليه إلى انفجار عصبي، بعد قرارات صدرت بعلم بوتين، قضت باشتراط تعاقد أي قوات رديفة مع وزارة الدفاع، أي مع شويغو عدو بريغوجين، وهو ما رآه الأخير محاولة لتصفية نفوذه المتضخم، خصوصا بعد اتهامه لوزارة الدفاع بقصف وقتل الكثير من جنوده، وإلى أن جرى ما جرى عاصفا وزاحفا باتجاه موسكو، وهنا وجد بوتين أن اللحظة قد حانت، فقد ظل صامتا قبلها لشهور، وهو يراقب دورات شتائم بريغوجين لقادة وزارة الدفاع، الذين اختفوا بالأمر عن الأنظار فجأة يوم «التمرد» الموصوف، ولم يصدر عن شويغو وغيراسيموف حرفا ولا تعقيبا واحدا، ولا صدر أمر بطلقة رصاص من بوتين نفسه، الذي وجد أن الفرصة نضجت أخيرا لتقليم أظافر بريغوجين، وربما إعادة توظيفه في مهمات أخرى، وهو ما أكدته تصريحات سيرغي لافروف وزير الخارجية، التي طمأن فيها دولا افريقية على استمرار خدمات «فاغنر» لصالحها، ثم بدت التفاصيل أكثر وضوحا مع إعلان بوتين نفسه، أنه يقدر وطنية وبطولة الأغلبية العظمى من عناصر «فاغنر»، ويدعوهم إلى واحد من ثلاث خيارات، إما التعاقد كأفراد مع الجيش الروسي في الداخل، أو في أوكرانيا، أو العودة إلى منازلهم، أو الالتحاق بقائدهم في «بيلاروسيا»، مع إعفاء بريغوجين وشركته من الملاحقات القضائية، وبما يوحى في الحقيقة لا على خشبة المسرح، أن بوتين نفذ تصورا مسبقا لإعادة توزيع خرائط النفوذ، ربما من دون توجيه الشكر «المخابراتي» المعتاد للأعداء الأغبياء في عواصم الغرب.
كاتب مصري