والآن، جاء دور "الحداثة البيروتية"، التي نضعها بين مزدوجَين: لأنها حالة ملتبسة من ناحية، وفي نهاياتها ما يفسّر ما ذهبنا إليه من فرضيات في معرض التعليق على أدونيس في أيامه السعودية، من ناحية ثانية. لذا، لن تكون معالجة اليوم مفهومة دون العودة إلى معالجات سبقت، خاصة ما تعلّق منها بالتمييز بين مفهومَين مختلفَين للحداثة.
على أي حال، بدا أدونيس في أيامه السعودية مُترفعاً عن "السياسة"، ومهموماً بأسرار القصيدة الجاهلية، وما بينه وبين أرضها الأولى من صلة ونسب، ناهيك عن لازمة "سُرّ من رأى"، التي تجلّت في كلامه كإستراتيجية خطابية على مدار تلك الأيام.
واللافت، بالعودة إلى ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن إلى الوراء، أن الترفّع عن "السياسة" كان المرافعة الأهم في جعبة الفتى السوري الهارب من دمشق، التي سُجن فيها بتهمة الانتماء إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى فضاء الحرية في بيروت مدينة العالم، والتعددية، والفنون. هذا ما سيعبّر عنه، شعراً ونثراً، على مدار سنوات طويلة، وما عبّر عنه في صيغ مختلفة في كتاب سيرته "ها أنت أيها الوقت". وهذه هي "البيروت" التي سنجدها في تقديم خالدة سعيد، شريكته بالمعنى الإنساني والثقافي، لكتاب يضم معالجات مختلفة بعنوان "بيروت: يوتوبيا المدينة المثقفة".
ولا أعتقد أن ثمة ما يختزل تلك اليوتوبيا، ويشهد لها، أكثر من مجلة "شعر"، التي صعد بها، ومن خلالها، جيل من الحداثيين، والمُحدثين، منهم يوسف الخال، وأدونيس، وأنسي الحاج، وخليل حاوي. وقد نجح هؤلاء في تحديث القصيدة العربية، وفي تكريس قصيدة النثر، في ظل ضوضاء "ثقافية" وسجالات طغت على المشهد الثقافي في الحواضر العربية في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
لا يتسع المجال، هنا، للكلام عن "مجلة شعر" إلا من زاوية واحدة، هي ترفّع الصاعدين على جناحها عن "السياسة" وتحويل الثقافة والفن (على أنواعه، خاصة الشعر) إلى مخلّص من طراز جديد: يكسر أغلال الماضي، يضيء الحاضر، ويفتح آفاق المستقبل. فما من مستقبل لكل هذا الشرق القديم، دون مخلّص كهذا. "الثقافة تذهب نحو المستقبل، والسياسة سجينة الماضي"، كما يقول أدونيس.
والمهم، بقدر ما يتعلّق الأمر، بهذه المرافعة أنها كانت وما زالت إنشائية، عمومية، وزائفة. وهذا، في الواقع أهون الشرور، فأسوأ الشرور أن يكون الترفع عن "السياسة" لعبة سياسية، أيضاً. ومن حُسن الحظ، فعلاً، أن بين أيدينا مرافعة مضادة لمرافعة أدونيس في كتاب للأكاديمي الأميركي روبن كريسويل بعنوان "مدينة البدايات: الحداثة الشعرية في بيروت" (تُرجم الكتاب إلى العربية، وصدر بالعنوان نفسه). في الكتاب الكثير من التفاصيل، ولأدونيس و"مجلة شعر" مكانة بارزة فيه.
موجز المرافعة المضادة أن الترفّع عن "السياسة" كان فعلاً من أفعال السياسة في الجوهر، وكان وثيق الصلة بالحرب الباردة، ونشاط الأميركيين لمكافحة التحوّلات اليسارية والقومية في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية. وبالقدر نفسه، كانت توجهات "مجلة شعر"، التي دعمها شارل مالك، وزير خارجية لبنان، وثيقة الصلة بانحياز نخبة الحكم اللبناني، السياسية والاقتصادية، إلى الغرب في الحرب الباردة. وكانت بيروت اليوتوبيا مناسبة فعلاً بقدر تمثيلها لفنتازيا التبادل الحر.
في الكتاب، كما في سجالات الستينيات، ما يكفي للتدليل على أن "مجلة شعر" لم تكن بريئة، وأنها كانت "سياسية" تماماً، وأن القائمين عليها، والصاعدين على جناحها، كانوا واعين لهذا الدور (شارك البعض في مؤتمر روما لحرية الثقافة). ومع ذلك، لا أميل إلى تفسير ظاهرة الحداثة الشعرية، بما فيها "مجلة شعر"، وأدونيس ورفاقه، بمنطق المؤامرة، بل بمنطق فضح كل محاولة للترفع عن "السياسة" بوصفها فعلاً سياسياً في الجوهر. وهذا يصدق على إستراتيجية أدونيس الخطابية في أيامه السعودية، أيضاً.
ويبقى أن أفضل ردود على الترفّع الوهمي عن السياسة، بوصفه لعبة مكشوفة، تجلّت على يد ممثلي الحداثة الشعرية أنفسهم، بطريقة تجرّد مرافعة أدونيس من كل جدارة مدعاة، وصار هذا واضحاً منذ اندلاع الحرب الأهلية في أواسط السبعينيات: خليل حاوي انتحر في ذروة الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، أنفق نزار قباني سنواته الأخيرة في هجاء النفط وملوكه وثقافته، صار سعدي يوسف "الشيوعي الأخير" (غادر السيّاب المشهد في وقت مبكّر، وكان ضحية ساذجة للحرب الباردة، ويوسف الخال طُرد من الحزب السوري القومي الاجتماعي)، بقي محمود درويش مع شعبه، في كل حروبه، وعلى سطح سفينته الجانحة، حتى يومه الأخير.
وأود أن أختم، هنا، بأنسي الحاج، أحد الصاعدين على جناح "مجلة شعر" ورموزها المؤثرة. أنفق الحاج أيامه الأخيرة مستشاراً لجريدة الأخبار اللبنانية، التابعة لـ"حزب الله". وفي سنته الأخيرة (2014) كتب تحت عنوان "يسوع المسيح احضر حالاً" ما يلي:
"أنت يسوع المسيح. نريد أن نعرف. أن نعرف كل شيء. نريد أن نعرف منك أنت شخصياً، بكلام جديد، واضح، هادئ أو صارخ. تعال الناصرة تنتظر. بيت لحم تنتظر. القدس تنتظر. جبل الزيتون ينتظر. الجلجلة تنتظر. فلسطين تنتظر".
وتبقى، في هذا المقام، فرضية أخيرة: كان الترفّع عن "السياسة" فعلاً سياسياً بامتياز في زمن الحرب الباردة، ومن تجلياتها. وبالقدر نفسه، يبدو الترفّع عن "السياسة" في الزمن الإبراهيمي فعلاً سياسياً بامتياز، ومن تجلياته. والمفارقة أدونيس كان الوحيد، بين أقرانه ومجايليه، الذي شبّ على شيء وشاب عليه.