كان اللقاء ممتعاً مع طلاب جامعة صباح الماليزية بتاريخ 22 يونيو الماضي، وهو اللقاء المشترك مع الجامعة الإسلامية بغزة بترتيب وتنسيق "مؤسسة أمان -فلسطين"، حيث قدَّمت كلمةً باسم قسم العلوم السياسية بالجامعة عن القضية الفلسطينية بشكل عام، والمحنة التي يمر بها شعبنا جراء الاحتلال واستشراء عمليات التهويد والاستيطان بالقدس والضفة الغربية، في ظل غياب أية مواقف دولية أو عربية على مستوى الجُرم والمظلومية، وهذا ما يُجرِّئ الحكومة الإسرائيلية اليمينية الصهيونية المتطرفة بالاستمرار في سياساتها العدوانية والاستيطانية منتهكة بذلك كافة الأعراف والقوانين الدولية فيما العالم الغربي لا يُحرِّك ساكناً!!
وقد أشرنا في حديثنا مع هؤلاء الطلاب الماليزيين إلى أن فلسطين وشعبها هما -تاريخياً- ضحية للحالة الاستعمارية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة دولة الخلافة العثمانية، ووقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، كما كان للإمبريالية الأمريكية من سطوة بعد الحرب العالمية الثانية على دول المنطقة، وهي دول حديثة العهد كانت -في معظمها- قد تشكلت ككيانات سياسة من رحم اتفاقية (سايكس -بيكو) بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. وجدت معظم هذه الدول نفسها أنها تدور داخل فلك السياسة الاستعمارية للغرب، وكانت عاجزة عن تحقيق الوحدة واستقلالية الموقف والقرار.
كانت "المسألة اليهودية" مشكلة أوروبية، وقد وجدت دول أوربا في هزيمة العثمانيين فرصة لحل تلك المسألة على حساب ما خسرته تركيا العثمانية من ممالك، وخاصة على أرض فلسطين، وقد نجحوا -للأسف- في تحقيق ذلك مع ما قدمته الإدارة الأمريكية من تواطؤ وتأييد.
وقعت النكبة عام 1948، وشُرِّد أكثر من 700 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم إلى دول الجوار، وهي الأردن وسوريا ولبنان بالدرجة الأولى، إضافة إلى آلاف أخرى وجدت طريقها إلى دول الشتات في الخليج العربي وبعض دول الغرب.
لم يُحرِّك العرب والمسلمون في ذلك الوقت ساكناً غير القيام ببعض الاحتجاجات التي لم تمنع اليهود من الإعلان عن قيام دولتهم في فلسطين، واعتراف الغرب الاستعماري بذلك الكيان.
بدأ الفلسطينيون ثورتهم المسلحة في الستينيات، ولكنها كانت تحت وصاية بعض الأنظمة العربية.
بعد هزيمة 1967، تعاظم المدُّ الإسلامي في فلسطين والدول العربية، وتعالى النداء بأن فلسطين قضية إسلامية، وأنَّ مسؤولية تحريرها تقع على كاهل الأمة المسلمة؛ باعتبار مركزيتها الدينية التي يمثلها المسجد الأقصى؛ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
ومع النجاح الذي أحرزته الحركة الإسلامية في فلسطين، ودخولها معترك الحياة السياسية، تطورت قدراتها العسكرية، وأصبحت تُشكِّل تهديداً وجودياً للاحتلال، إلا أنَّ الانتكاسة التي حلَّت بقوى التغيير، وفشل "ثورات الربيع العربي" في إنجاز مهماتها، أثَّر سلباً على قوى المقاومة وقدراتها، غير أن عمليات المواجهة مع الاحتلال لم تتوقف، وكانت تأخذ شكل الحرب وتصعيد المواجهات المسلحة من حين لآخر.
وفي سياق تطلعاتنا لما يمكن أن تُقدِّمه شعوب أمتنا العربية والإسلامية وماليزيا -مثلاً- كحكومة وشعباً، أكدنا على أنَّ هناك أموراً يمكن للطلاب الماليزيين القيام بها، كالانضمام لحركة المقاطعة الدولية (بي. دي.
إس)، وهي توجهٌ مفتوح شكَّلت فعالياته وانتشار ساحاته تهديداً كبيراً لدولة الاحتلال. كما أن التظاهرات الطلابية التضامنية مع الفلسطينيين ضد اعتداءات إسرائيل على قطاع غزة والضفة الغربية تلفت الأنظار لحجم ما ترتكبه إسرائيل من مجازر وجرائم بحق الإنسانية تستحق التنديد وممارسة الضغط العالمي، لعدم إفلات جنرالاتها من العقاب.
كان الطلاب أيضاً معنيين بما يمكن لحكومتهم القيام به كدولة، وما الذي على منظمة التعاون الإسلامي عمله لنصرة الشعب الفلسطيني والدفاع عن مقدساته؟
لقد أشرنا إلى الجهود الكبيرة التي بذلتها ماليزيا في عهد رئيس الوزراء السابق مهاتير محمد، على مستوى المواقف السياسية والدعم الإنساني والتسهيلات المشكورة التي قدَّمتها الجامعات الماليزية للطلاب الفلسطينيين، وهي في جملتها سياسات لم تتخلَ عنها أيضاً حكومة د. أنور إبراهيم. أما فيما يخص منظمة التعاون الإسلامي والتي سأل البعض عن دورها تجاه القضية الفلسطينية ونصرة القدس والأقصى؟ أوضحنا بأنَّ مواقفها -للأسف- دون المستوى المطلوب والمنتظر؛ لأنها تخضع لتوجهات وسياسات الكثير من الأنظمة العربية التي تتحكم بها أمريكا والدول الغربية.
وفيما تعلق بسؤال أحد الطلاب عن سبب تأخر النصر، رغم مرور أكثر من سبعة عقود على النكبة والكفاح المسلح!! أشرت إلى المأساة التي ما زلنا نعاني منها وهي تشرذم حال الأمة وانشغالاتها بالصراع على السلطة وبالخلافات المستشرية مع دول الجوار من ناحية، وأيضاً غياب وحدة القرار والرؤية لدى الفلسطينيين من ناحية ثانية. إضافة إلى أنَّ أمريكا والغرب الأوروبي ما تزال مواقفها المنحازة والداعمة لإسرائيل عسكرياً ودبلوماسياً لم تتغير.
في الحقيقة، كان اللقاء يعكس حالة الحرص والحيوية والمتابعة الدائمة لدى الماليزيين، إذ إنَّ فلسطين ما تزال قضيتهم المركزية، وهذا شعور متأصل لديهم، وقد لمسته منذ بداية اختلاطي ولقائي بمجموعة من الطلاب الماليزيين الدارسين بجامعة الأزهر- القاهرة في أواخر السبعينيات، وكان يترأسهم -آنذاك- الطالب محمد فريد، والذي جمعني به وبهم أكثر من لقاء، وقد لمست منه ومنهم تلك المشاعر الفياضة لقضية فلسطين والمسجد الأقصى. وعندما سافرت إلى أمريكا في أوائل الثمانينيات، التقيت بالكثير من الطلاب الماليزيين، بعضهم على مقاعد الدراسة أو في السكن الجامعي، وكانت نفس المشاعر تجاه فلسطين حاضرة، وكان من بين أولئك الطلاب "عبد الرخيم غوش"، الذي تصدر قيادة التجمع الطلابي الماليزي، وكان أحد المقربين لرئيس الوزراء الحالي د. أنور إبراهيم.
في العام 2008، شنَّت إسرائيل عدوانها الكبير على قطاع غزة، حيث سقط ألاف القتلى والجرحى من الفلسطينيين.. تقاطرت الكثير من الوفود العربية والإسلامية التضامنية، وكان من بينها وفد طبي ماليزي استضفناه في رفح، وكانت فرصتي للجلوس والحديث الطويل معهم، إذ كان مكان إقامتهم يعود إلى أحد إخوتي. بالطبع، كان الحديث يأتي عن سبب قدومهم، رغم المخاطر الكبيرة التي تكتنف رحلتهم إلى غزة.. كان الجواب: إنه الواجب وأمانة المسؤولية تجاه القدس والأقصى، فنحن أبناء أمة إسلامية واحدة.
إنَّ هذه المشاعر الإسلامية الغامرة تجاه القدس والأقصى وقضية فلسطين هي غرس هذا الدين، الذي عليه إيمان هؤلاء الماليزيين، ومثلهم الشعب الإندونيسي ومسلمي تايلند والهند وباكستان...الخ
من هنا، فإن قناعتي بأن التواصل عبر تبادل المنح الدراسية بين الجامعات الفلسطينية وجامعات تلك الدول الإسلامية سيعزز من قوة الروابط الدينية والثقافية بين شعوب أمتنا، كما أنَّ زيارة مسلمي تلك الدول للمسجد الأقصى سيشكل حائطَ صدٍّ أمام محاولات التهويد التي تقوم بها إسرائيل للمقدسات الإسلامية. إن قدوم المسلمين بالمئات من دول مثل تركيا وجنوب أفريقيا والهند وأمريكا وكندا وأوروبا لزيارة المسجد الأقصى للصلاة فيه ومؤازرة أهله ومشاركتهم الدفاع عنه، هي أفضل وسيلة لحمايته كعرين إسلامي، ورسالة رادعة للصهاينة بأن للأقصى أمة قوية تحمله وتحميه.
إنَّ سياسة مد الجسور مع شعوب أمتنا الإسلامية عبر الأنشطة الجامعية هو خطوة مهمة لصالح قضيتنا الفلسطينية، فطلاب اليوم هم قادة الغد، وهذا الاستثمار المعرفي والثقافي هو جهد مشكور لكلِّ من يبادر بالقيام به، والجامعة الإسلامية في قطاع غزة هي واحدةٌ من بين هؤلاء.