إسرائيل وظاهرة صنع "الفُشار" الفلسطينية

حجم الخط

بقلم د علي الجرباوي

 

 

 

صنع «الفُشار» ليس بالعملية الصعبة أو المعقدة، بل هي بسيطة ومباشرة. بذور من الذرة توضع مع القليل من الزيت في حلّة على موقد نار، وعندما تصل الحرارة إلى درجة معينة، تبدأ البذور في «الفرقعة» والتفتُح، متحولة إلى حبات «فُشار». ولكون «الفُشار» لذيذ، فقد تم اختراع آلة لصناعته، تأتي بأحجام مختلفة، صغيرة تفي بالاحتياج المنزلي، وكبيرة تلبي غرض الاستهلاك في الأماكن العامة. المهم في أمر معظم النماذج من هذه الآلة أنها تأتي شفافة، تسمح بمراقبة عملية تحوُّل بذور الذرة بـ «الفرقعة» إلى «فُشار»، وهو أمر يستهوي الكثيرين، خصوصاً الأطفال الذين تجدهم في الأماكن العامة يتحلقون حول هذه الآلات لمراقبة تلك العملية.
ما يثير الانتباه، وربما الاستغراب والدهشة أيضاً، أن نفس درجة الحرارة التي تتعرض لها بذور الذرة المتشابهة في الشكل لا تؤدي إلى تحوّلها بنفس الوقت إلى حبات «فُشار». بل إن ما يحدث هو تباين في توقيت «فرقعة» كل بذرة من بذور الذرة، التي تأتي متتالية، قد يفصل بينها مجرد أجزاء من الثانية، أو عدد من الثواني، وقد يصل إلى بضع دقائق. ليس هذا فحسب، وإنما أن الشكل الناتج لكل حبة «فُشار» يختلف عن الحبات الأخرى، ما يعني أن ما يبدأ متشابهاً في الشكل يأتي مختلفاً في النهاية، فلا يُعرف الشكل الذي ستؤول إليه كل بذرة ذرة عندما تحوّلها الحرارة إلى حبة «فُشار». يضاف إلى ذلك أن عملية التحوّل لا تتبع نمطاً معيناً يمكن فهم سياقه وتتبعه، وإنما تأتي عشوائية، لا يمكن معها التنبؤ بتسلسلية عملية تحوّل بذور الذرة، أو معرفة موقع البذرة التي ستتحول في الوقت المحدد. فبذرة «تُفرقع» من هنا، والأخرى «تُفرقع» من هناك، والثالثة من موقع آخر، وهكذا يستمر الحال. وطالما تُغذّى الآلة بالذرة، فإن متوالية «الفرقعة» العشوائية تستمر. هذه العشوائية هي على الأغلب العامل الذي يضفي عنصر المفاجأة على عملية صنع «الفُشار»، إذ يجعل من تحوّل كل بذرة من بذور الذرة حدثاً غير متوقع، لا يمكن السيطرة عليه أو التحكم به. وهذا ما يثير فضول المراقبين ويجعلهم يلاحقون سير العملية للتكهن بموقع البذرة التي سوف «تتفرقع» تالياً.
ما يثير حفيظة إسرائيل المحتلة للأرض الفلسطينية، ويستفزها، أن ما يجري مؤخراً في القدس والضفة، وانطلاقاً منها، يشبه إلى حد كبير ظاهرة صنع «الفُشار». فعمليات فلسطينية تتوالى كـ «فرقعة» حبات «الفُشار» في حيّز «الآلة» المحكمة الإغلاق، وهي منظومة الاحتلال. هذه العمليات تأتي عشوائية بالنسبة لإسرائيل، لا تتبع نمطاً معيناً أو نسقاً محدداً، فهي ليست متموضعة أو ثابتة، وإنما متنقلة ومتدحرجة، كون معظمها ينبع من قرارات فردية، قد تكون لحظية، أو آنية من فعل مجموعة محدودة من الأفراد، يربطهم ببعض التزام فردي يفوق الارتباط الفصائلي أو التنظيمي. ولأنها تحدث بصورة مفاجئة لا يمكن توقع توقيتها، فأي وقت، ليلاً نهاراً، هو مرشّح لوقوعها، ولكونها تحصل أيضاً بشكل عشوائي لا يمكّن إسرائيل، بكل ما تمتلكه من أجهزة أمنية وقدرات عسكرية، التنبؤ بموقع حدوثها، في منطقة القدس أو جنين أو تل أبيب، أو على أيّ طريق كان، فإن استمرارها سيؤدي بالنسبة لإسرائيل إلى تآكل هيبتها الأمنية، وتقلص قدرتها الردعية، وإفقادها ما تسعى له من محافظةٍ على التحكم والسيطرة. وهذه هي الأسس التي يرتكز عليها استمرار احتلالها.
منذ احتلالها عام 1967 لما تبقى من فلسطين، لم تسع إسرائيل للتوصل إلى حل للصراع مع الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية الممثلة بمنظمة التحرير، كون الحل يتطلب منها الاعتراف بالحقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها الحق في الحرية والاستقلال والعودة. كان هذا الاعتراف يفرض عليها الانسحاب من تلك الأرض المحتلة، والقبول بإقامة الدولة الفلسطينية. ولكن لأنها قررت، منذ وضعت تلك الحرب أوزارها، الاحتفاظ بالأرض المحتلة، رغم كثافة الوجود الفلسطيني عليها، فإنها استعاضت عن التوجه للحل الذي يُغلق الصراع بانتهاج البحث عن أساليب ووسائل لإدارة هذا الصراع بما يحافظ على مصالحها وأهدافها، وتجربتها بالفرض على الفلسطينيين. كان أهم ما سعت له إسرائيل خلال فترة احتلالها التي تخطت النصف قرن، هو ضمان ديمومة الاحتلال بأقل تكلفة بشرية ومادية عليها. لذلك وظفت كل ما تفتقت عنه أيديولوجيتها العنصرية وقدراتها من إجراءات تضييقية وتقييدية على الفلسطينيين، واستخدمت بشكل دائم قوتها العسكرية المفرطة لعقابهم، فردياً وجماعياً، بهدف زرع بذرة الخشية والرهبة منها. لقد سعت إسرائيل إلى تدجين الفلسطينيين وفرض قبول واقع ديمومة الاحتلال عليهم. وفي هذا السعي لم تفتأ وهي تحاول تنميط الفلسطينيين في النسق المفيد لها، والذي كان يرمي دائماً للتوصل إلى تفاهمات مع أطراف فلسطينية لتكون عناوين رسمية علنية، يتم من خلالها المحافظة على استقرار الوضع القائم، وبالتالي على استمرار احتلالها قليل التكاليف.
مع أنها لم تنجح في تحقيق مسعاها بشكل كامل ودائم، إلا أنها تمكنت بصورة عامة، رغم انتفاضتين وهبّات متعددة وحروب شنتها على قطاع غزة، من الاستمرار بإدارة الصراع وتفادي حله. فخرق التفاهمات كان دائماً يعاد ضبطه، ما مكن إسرائيل، بلجوئها المستمر لاستخدام القوة المفرطة بفرض الهيبة المعنوية والردع المادي على الفلسطينيين، من المحافظة على قدر كافٍ من التحكم والسيطرة القهرية. لم تستوعب حكومات إسرائيل المتعاقبة أن إدارة الصراع، مهما كانت قمعية ومتغلغلة، لا يمكن أن تنهي تطلعات شعب يقبع تحت الاحتلال، مهما طالت مدة هذا الاحتلال وتعمقت أساليب وإجراءات فرض بقائه. فسلب الحرية أمر ينافي فطرة الطبيعة البشرية، التي وإن تضطرها الظروف القاسية في بعض الأحيان للاستكانة، إلا أنه ليس بإمكانها أو بمقدورها أن تقبل بالاستسلام، وترضى بسعادة مجبولة بدوام الإذعان.
في إدارتها للصراع، تستطيع إسرائيل تحمّل «فلتان» التفاهمات من حين لآخر مع الأطراف الفلسطينية المسؤولة في الضفة وقطاع غزة. ولكنها لا تتحمل، وهي شديدة الحساسية والتأثر من تكبد أدنى خسارة بشرية، تنامي ظاهرة خروج أفراد ومجموعات فلسطينية عن إطار هذه التفاهمات، وفقدان قدرة السيطرة عليها إسرائيلياً، وحتى فلسطينياً. لذلك يقلقها تنامي ظاهرة صنع «الفُشار» في الأوساط الفلسطينية، فهي تقوض إن استمرت وتصاعدت، ما سعت له إسرائيل باستمرار، وهو إدارة الصراع بأقل تكلفة.
لقد أدى وصول المستوطنين من غلاة اليمين المتطرف لسدة الحكم، والتحكم بالحكومة، في إسرائيل، إلى خروج التفاهمات التي كانت تسيّر الوضع القائم إسرائيلياً مع الأطراف الفلسطينية المختلفة عن نطاق ما يمكن تحمله فلسطينياً. فعدا أن الأفق بإمكانية التوصل إلى تسوية الحد الأدنى المقبول فلسطينياً أُغلق منذ سنوات عديدة، فإن تسلّم غلاة المستوطنين للحكم في إسرائيل فتح الباب على مصراعَيه لاستهداف الفلسطينيين، وشن حملة استيطان مسعورة. وبما أن لكل فعل رد فعل، فقد تدحرج الرد الفلسطيني على هيئة ظاهرة صنع «الفُشار»، وهي ظاهرة لا تستطيع إسرائيل كبحها، مهما اتخذت من إجراءات. فبذور الذرة «تفرقع» بفعل الحرارة التي تتعرض لها بصورة عشوائية لا يمكن التنبؤ بها أو السيطرة عليها.
لكونها كذلك، ولخشيتها من فقدان زمام المبادرة والقدرة على استمرار السيطرة، استهدفت إسرائيل مخيم جنين بعملية عسكرية معقدة الإعداد وواسعة وعميقة، استخدمت فيها قوتها العسكرية المفرطة لإيقاع دمار كبير وماثل في المخيم، وهي تعلم أنها لن تستطيع بذلك اجتثاث الظاهرة. لقد قامت بذلك لإرسال رسالة تستهدف إرهاب وتخويف الفلسطينيين، داخل المخيم وخارجه، علّ ذلك يؤدي إلى استعادة هيبتها النافذة وسيطرتها المخرومة. ولكن هذه الاستعادة لم تعد سهلة أو مضمونة، فأصل الداء لا يكمن في ضعف الفاعلية الحالية للتفاهمات الإسرائيلية - الفلسطينية التي كانت قائمة، ولكن في تحويل إسرائيل هذه التفاهمات إلى آليات دائمة لتكريس الاحتلال.
على إسرائيل أن تعي أنه طالما استمر الاحتلال فإن آلة صنع «الفُشار» ستبقى شغّالة. وما بإمكانها أن تفعل شيئاً سوى انتظار وترقب متى ومن أي موقع ستأتي «فرقعة» الحبة التالية.