لم يكن مفاجئاً البيان المتزامن الذي صدر هذا الأسبوع في أنقرة والقاهرة رسمياً حول استئناف العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل بين الدولتين. فمنذ أكثر من سنة تجري مصر وتركيا جس نبض واتصالات ومحادثات وزيارات بهدف رأب الصدع العميق والمرير الذي حدث في 2013 في أعقاب استيلاء اللواء عبد الفتاح السيسي على الحكم في مصر. تم كشف الإشارة الواضحة والعلنية على تقدم عملية التطبيع في السنة الماضية في الدوحة عاصمة قطر عندما تصافح السيسي وأردوغان أثناء ألعاب المونديال بحميمية برعاية حاكم قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي لعب دور “الوسيط النزيه”. ومثلما بين إسرائيل وتركيا، التي بدأت القطيعة بينهما في 2010 عقب قضية سفينة “مرمرة”، لم يكن هذا شرخاً كاملاً بين مصر وتركيا.
تضاءلت العلاقات التجارية في السنوات الثلاث الأولى للقطيعة، ولكن لم تتجمد. شقت البضائع التركية طريقها إلى أسواق مصر، واستمر تجار تركيا في استيراد المواد الخام من مصر، لكن الحرب بين الدولتين كانت في ذروتها. قاطع المواطنون في مصر شركة الطيران التركية، وتم إلغاء الاتفاق التجاري الذي وقعت عليه تركيا وحكومة محمد مرسي، رجل الإخوان المسلمين الذي انتُخب للرئاسة في 2012 في انتخابات ديمقراطية أولى بعد نصف قرن، وذلك مع خطط إجراء مناورات عسكرية مشتركة بين الجيشين. وانخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، وأعيد السفراء، وتفشى الخطاب المسموم في وسائل الإعلام.
“سيلعنك التاريخ كما لعن فقهاء دين سابقين”، هكذا تطاول اردوغان على شيخ الأزهر أحمد الطيب، الذي أصدر فتوى دينية حول السيطرة العسكرية على الحكم من قبل السيسي. وصف أردوغان خطوة السيسي بـ “انقلاب عسكري غير قانوني”، ووصف السيسي بـ “ديكتاتور غير شرعي”، وأظهر الدعم للإخوان المسلمين في كل مناسبة، وبعد ذلك أعطى قادتهم اللجوء في دولته وسمح لهم بإدارة معركة سياسية وإعلامية ضد النظام في مصر. لكن السيسي لم يبق صامتاً.
إضافة إلى الدعم المالي الكبير الذي حصل عليه السيسي من السعودية والإمارات، اللتين عارضتا ثورة الربيع العربي، واعتبرتا السيسي الكابح الذي يمكنه منع انزلاقها إلى بلادهم، أضافت ضربة شديدة لتركيا عندما قررت كنوع من التضامن مع السيسي إلغاء الاستثمارات في تركيا بمبلغ مليارات الدولارات. إضافة إلى ذلك، اعتبرت تركيا عدوة العالم العربي، إلى درجة أن سفير الإمارات في واشنطن اعتبرها “التهديد الإقليمي الأخطر من تهديد إيران”.
سياسة السيسي تجاه أردوغان لم تكن مختلفة عن سياسة سلفه حسني مبارك، الذي اعتبر تركيا تهديداً على هيمنة مصر ومكانتها في الشرق الأوسط. كانت النظرة متبادلة؛ ففي شباط 2011 عشية سقوط الرئيس حسني مبارك، كان أردوغان هو الذي دعا إلى “الاستماع إلى صوت الشعب والاعتزال”. قدم أردوغان في حينه لحسني مبارك نصيحة جدية: “ليست هناك حكومة يمكنها البقاء بدون رغبة الشعب. العصر الذي تعتمد فيه الحكومات على الضغط والقمع ولى… سنذهب جميعاً. سنموت وسنحاكم حسب أفعالنا”.
لكن أردوغان الذي اعتبر نفسه مؤيداً للثورة وصديقاً للمضطهدين لم يتردد حتى في دعم الرئيس الإيراني محمد أحمدي نجاد عندما تم انتخابه في حملة انتخابات مزورة، التي عرفت نتائجها المأساوية بعد أن قامت قوات الأمن في إيران بقمع جمهور المتظاهرين بشكل وحشي.
ثمة صديق آخر مقرب منه، وهو عمر البشير، الرئيس السوداني الذي كانت يداه ملطختين بدماء عشرات آلاف المواطنين في السودان الذين قتلوا على يد العصابات التابعة له. في الوقت نفسه، في بداية العام 2011، كان بشار الأسد مثل أخ له، وبعد سنة على اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، وبعد قتل آلاف المدنيين السوريين، قطعت تركيا علاقتها مع سوريا. وكانت لاردوغان نصيحة أخرى لمواطني مصر وبشكل خاص للإخوان المسلمين: خذوا المثال من تركيا وابنوا جمهورية علمانية لكم مع سلطة دينية، كما فعلنا نحن في تركيا”، هكذا قدم أردوغان نصيحة لدى زيارته الأولى في مصر بعد الثورة في 2011. زلة لسان كادت تكلفه علاقته مع حركة الإخوان المسلمين. فقد أرادوا دولة شريعة خالصة، وليس النموذج العثماني أو النموذج التركي، وبالتأكيد ليس السماع عن كيفية إدارة دولة، حسب رأيه. الاختلافات الأيديولوجية تمت تسويتها على الفور، والرئيس المصري في حينه، محمد مرسي، وقع مع تركيا على صفقات تجارية شاملة وسمح لها باستخدام موانئ مصر كرأس جسر لإفريقيا، وناقش التعاون العسكري بين الدولتين. هذه كما قلنا تم إلغاؤها عند تولي السيسي للحكم بالضبط قبل عشر سنوات.
إلى جانب العداوة الشخصية بين الزعيمين والتوتر الدائم الذي كان بينهما بسبب دعم تركيا للإخوان المسلمين (الذي وافقت على تقليصه بشكل كبير من أجل استئناف العلاقات مع مصر)، فقد تطورت بين تركيا ومصر ساحات مواجهة شديدة، التي هددت أحيانا بالتطور إلى حرب حقيقية. ثمة ساحة من هذه الساحات، وهي الساحة الليبية التي عرضت تركيا وقطر وإيطاليا مساعدتها عسكرياً واقتصادياً للحكومة المعترف بها، وبذلك وضعت نفسها أمام التحالف العربي الذي أيد الجنرال خليفة حفتر، الذي دعمته مصر والإمارات وروسيا وفرنسا.
فضلت مصر التحالف مع حفتر الذي يسيطر على شرق الدولة بعد أن قاتل قوات داعش والحركات الإسلامية المتطرفة بنجاح، وكان يمكنه أن يضمن، حتى لو لم يكن بشكل كامل، بأن لا يتم استخدام الحدود بين مصر وليبيا كمكان لإطلاق قوات إسلامية متطرفة على الأراضي المصرية. سمح حفتر للقوات المصرية، بالتعاون مع قوات إماراتية، برية وجوية، بالعمل تقريباً بدون قيود في شرق ليبيا. وفي المقابل، حصل على السلاح والأموال والدعم السياسي الذي هدف إلى مساعدته، بدون نجاح، للسيطرة على الحكم في الدولة. في المقابل، أرسلت تركيا قوات برية وجوية إلى ليبيا، وحتى أرسلت “متطوعين” سوريين قاتلوا في صفوف مليشيات المتمردين للمساعدة في محاربة حكومة ليبيا ضد قوات حفتر.
وقوف تركيا إلى جانب الحكومة الليبية أثمر عن ثمار اقتصادية وسياسية كبيرة لها، عندما تم التوقيع على اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا في 2019. حسب هذا الاتفاق، واتفاق آخر تم التوقيع عليه بعد سنتين تقريباً، انتقلت مساحات بحرية كبيرة في البحر الأبيض المتوسط إلى يد تركيا، تتضمن حقول نفط وغاز، التي يمكن لتركيا أن تستخرجها. ترسيم الحدود هذا هز كل منظومة استخراج الغاز في الشرق الأوسط، لأنه -حسب خريطة الحدود- هذه الأراضي “التركية” تقع في المسافة بين مصر واليونان، وبهذا فمن شأنها المس بقدرة مصر على تسويق الغاز مباشرة إلى أوروبا.
أوضحت تركيا بأن لا مانع من مرور الغاز المصري عبرها ومنها إلى أوروبا. وبذلك، تترسخ مكانة تركيا كمحطة عبور إقليمية للغاز، لكن هذا يعد إعلان حرب لدى مصر. للمفارقة الشديدة، في الوقت الذي تتشاجر فيه حكومتا تركيا ومصر حول اتفاق الحدود البحرية، فقد بدأت مصر ببيع الغاز مباشرة لتركيا، وفي السنة الماضية أصبحت تركيا زبونة الغاز الأساسية من مصر.
أما الساحة الثانية فتطورت حول قضية سد النهضة الذي أقامته إثيوبيا على نهر النيل، الذي يهدد أمن مصر واقتصادها. تنظر مصر بخوف إلى اتفاقات التعاون الأمني بين أنقرة وأديس أبابا في 2021، التي شملت إرساليات سلاح وطائرات مسيرة، والتعاون الاستخباري، بما في ذلك مجال السايبر، وتدريب قوات إثيوبية واستثمارات في مجالات مدنية بمبلغ 2.5 مليار دولار (هذا حتى العام 2021).
في العام 2014 حذرت مصر تركيا بلهجة هجومية من التدخل في النزاع بين مصر وإثيوبيا حول السد. “عندما أقامت تركيا سد أتاتورك خلافاً للاتفاقات الدولية، فقد تسببت بتعطيش الشعب السوري والعراقي”، قال في حينه وزير المياه في مصر، محمد عبد المطلب. “أريد التأكيد على أن مصر ليست العراق أو سوريا، وأن إثيوبيا ليست تركيا”. هذه التصريحات شديدة اللهجة تم تخفيفها فيما بعد، لكن مثلما في قضية العلاقات مع ليبيا، ستقف العلاقات بين تركيا وإثيوبيا على رأس الأجندة المشتركة عند استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين.
لقد مرت تركيا ومصر في السنتين الأخيرتين في عملية تشبه “إعادة تنظيم” السياسة الخارجية. استئناف العلاقات مع الإمارات والسعودية، وفيما بعد مع إسرائيل والآن مع مصر، كل ذلك يستكمل عودة تركيا إلى الشرق الأوسط العربي، هذه المرة كشريكة، وهي في هذه الأثناء على الأقل تتجنب استعراض طموحات هيمنة. بقي لها فقط إنهاء القطيعة مع سوريا، التي تعمل عليها مع روسيا. استأنفت مصر علاقاتها مع قطر بعد الحصار الذي استمر أربع سنوات والذي فرضته عليها ثلاث دول في الخليج ومصر. وقد شجعت عودة سوريا إلى الجامعة العربية وخففت موقفها من الحكومة الليبية، والآن تقوم بفحص إمكانية استئناف العلاقات أيضاً مع إيران، الخطوة التي يبدو أنها توشك على النضوج بعد التوقيع على اتفاق استئناف العلاقات بين السعودية وإيران في آذار الماضي.
هذه الخطوات ليست نتيجة غرام متأخر أو تعبير عن تحالفات استراتيجية أو عسكرية تستهدف تغيير وجه العالم أو المنطقة. فمصر وتركيا غارقتان في أزمة اقتصادية، بل وتهدد استقرار النظام خصوصاً في مصر. الاتفاقات الجديدة تستهدف ملء الخزينة الفارغة في الدولتين. حجم التجارة بين مصر وتركيا يبلغ 8 مليارات دولار. وحسب سفير تركيا المرشح، صالح موتلوشان، فإن الطموح هو التوصل إلى تجارة بمبلغ 20 مليار دولار في السنوات القريبة القادمة. هناك شركات تركية في الحقيقة تعمل الآن في مصر، لكن بحجم قليل نسبياً وربما يرتفع بمئات النسب المئوية على خلفية تطلع مصر إلى تطوير الصناعة لديها وتجنيد استثمارات جديدة لاقتصادها المتضرر. بالنسبة لتركيا، فإن استئناف العلاقات قد يدفعها قدماً إلى مكانة مركز غاز إقليمي، التي سيتجمع فيها الغاز المصري والإسرائيلي إلى جانب الغاز الذي يأتي من روسيا ومن دول بحر قزوين، ومنها إلى أوروبا. ولم يبق سوى تجسيد هذا الحلم.
هآرتس