حتى حين أقدمت على فعل الذروة الاحتلالية، أي اجتياح مدينة ومخيم جنين، كما لم تفعل منذ عشرين عاماً، وذلك الأسبوع الماضي، فإن إسرائيل التي عجزت عن فعل أمرين معاً، هما التوغل داخل المخيم بجنود المشاة، وإطالة أمد الحرب أكثر من 48 ساعة، بحكومتها خاصة قد تأكدت من فقدانها فعلاً للردع العسكري، وهي تواجه مجرد جبهة واحدة، وبشكل خاطف ومحسوب وحتى محدود، لذا تذكرت ما سبق لحكومات اليمين أن وضعته في الأدراج من ملفات، لم تقم بتنفيذ محتواها، لأنها رأت فيه في ما مضى ما يعزز من الهدف الفلسطيني العظيم، المتمثل بإقامة الدولة المستقلة.
وما بين حكومات اليمين واليسار الإسرائيلي فيما يخص سقف الحل السياسي مع الطرف الفلسطيني، رغم التقاطع بينهما، إلا أن الفارق بيّن وواضح، وظهر جلياً إزاء إعلان المبادئ، الذي وقعه اليسار ورفضه اليمين، والذي يقر من حيث المبدأ بحقيقة احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين، ووافق من حيث المبدأ على الانسحاب من 90% من تلك الأرض، وأقر بأن ملفات الحدود بين الدولتين، القدس، اللاجئين، والمستوطنات هي ملفات خلافية تجد حلاً ضمن المفاوضات بين الطرفين، وحتى أن المفاوضات التي جرت بينهما وحتى في ظل حكومات يمينية ولكن ليست ليكودية، أي أيام أرئيل شارون وإيهود أولمرت بحزبهما "كاديما"، قد ناقشت مبدأ تبادل الأراضي لعدم اللجوء إلى تفكيك كل المستوطنات ولفكفكة ملف القدس، أما اليمين ومنذ كامب ديفيد مناحيم بيغن، فلم يقر بأكثر من الحكم الذاتي للسكان، وإن كان قد تراوح في مواقفه بعد ذلك بحديث بعض أركانه عن انسحاب من 60% من الأرض الفلسطينية المحتلة.
ومن المهم أيضاً التذكير بأن آخر عهد اليسار الإسرائيلي بالحكم كان ما بين عامي 1992 - 1996، ثم ما بين عامي 1999 - 2001، وذلك بتأثير الانتفاضة الأولى بعد عقود من حكم اليمين الليكودي، أي أن ما يبدو كتنازل أو كمرونة في الموقف الإسرائيلي وحتى في خارطته السياسية الداخلية، له علاقة بمستوى التأثير السياسي الفلسطيني، فقد فرضت الانتفاضة الأولى على إسرائيل أن تستبدل عهد حكومات اليمين بحكومة يسارية، استجابت بدورها إلى ما ذكرناه من موقف إسرائيلي رسمي، تم تثبيته في اتفاق إعلان المبادئ، أما اليوم فإن المقاومة الفلسطينية في جنين ونابلس والقدس والخليل، بدأت تفرض على إسرائيل، بعد وقت من استخدام ليس العصا الغليظة وحسب، بل كل ما في جعبتها من أدوات قهر يمتلكها جيشها ومستوطنوها، أن تغير من لهجتها وأن تتذكر فجأة السلطة الفلسطينية لدرجة أن تعقد اجتماعاً خاصاً للكابينت للبحث في تقديم التسهيلات لمنع انهيارها ؟!
يبدو أن ذلك يأتي كمحاولة من الليكود للرد على تسهيلات الضغط على الزناد التي منحها قبل أيام إيتمار بن غفير لمليشيات المستوطنين لممارسة القتل الميداني بحق الفلسطينيين بسهولة ويسر، وطبعاً ما زال حديث التغير في الموقف الإسرائيلي في بدايته، لكن مجرد عقد اجتماع الكابينت، والتفكير في تشغيل المنطقة الصناعية في ترقوميا، وهي مشروع طرح على الطاولة منذ عام 2007، يعني أن التصدع داخل الحكومة قد بدأ، وأن نتنياهو يحاول أن يعود بالحكومة إلى مربع اليمين التقليدي، متجاوزاً اليمين المتطرف، الذي فرضت معارضته لفكرة التسهيلات تعديلاً عليها يجعل من المستحيل أن تجد طريقها للواقع، نقصد بذلك الشروط التي طالبت السلطة بها قبل أن تمنحها تلك التسهيلات، لكن نتنياهو وأجهزته الأمنية وجيشه يحتاجون إلى السلطة عملياً لإعادة السيطرة على الضفة الغربية كما كان الحال من قبل، أي بصراحة يتطلعون إلى العودة للتنسيق الأمني، بعد أن تأكدوا أنهم عاجزون عن مواجهة المقاومة بكل ما فعلوه من اجتياحات لجنين ونابلس، والأهم أن محاولة هدم مخيم جنين وترحيل سكانه الخمسة عشر ألفاً، لم تنجح رغم تدمير نحو 80% من المخيم، فإضافة إلى الفضيحة الدولية التي طالت إسرائيل، فقد سارعت دولتا الجزائر والإمارات إلى الإعلان عن تقديم المال اللازم لإعادة إعمار المخيم.
وحقيقة الأمر، أن التجربة مع إسرائيل تؤكد ليس فقط أن طريق المقاومة والانتفاضة، الشعبية والعسكرية والمقاومة متعددة الأشكال، وبرافعة ميدانية قوية وفعالة جداً، حتى وهناك انقسام داخلي سياسي رسمي، هو الطريق الوحيد لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأرض الفلسطينية المحتلة في نهاية المطاف، ذلك أن إسرائيل فيها عيب الدولة الديمقراطية، وهو عدم وجود القائد التاريخي القادر على اتخاذ قرار تاريخي والتوقيع على معاهدة السلام، وآخر من فعل هذا إسحق رابين بدعم لوجستي من شمعون بيريس ودفع حياته ثمناً لتوقيعه، فيما دفع بيريس نفسه مستقبله السياسي ثمناً لدوره في اتفاق أوسلو، ونتنياهو وكل قادة الحكومة والمعارضة، يخضعون لصندوق الانتخاب، ولا أحد منهم يجرؤ على التفكير بمصلحة إسرائيل الإستراتيجية، أي تحريرها مما يترتب على احتلالها أرض الغير من نتائج مدمرة مباشرة وبعيدة المدى.
أي أن إسرائيل غير قادرة على تجاوز فكرة تناول المسكن، حبة الأسبرين، لمعالجة ما ينتابها من صداع سياسي مزمن، جراء احتلالها، وما زالت تظن أن التسهيلات تهدئ الأمور، وحتى أن الاقتصاد ورفاه العيش يمكن أن يجنبها الانسحاب طال الزمان أم قصر، وإذا كان اليمين كما أسلفنا، منذ مناحيم بيغن، لم يتجاوز أكثر من الحكم الذاتي، فإن اليمين المتطرف الحالي، لم يترك للسلطة الفلسطينية حتى هذا الحكم، وذلك باجتياحاته المتكررة لمناطق "أ" أو المدن، وهو لم يغلق الأفق أمام تحول الحكم الذاتي إلى دولة، وحسب، بل إنه انقضّ على هذا الحكم الذاتي، وليس هناك من سلطة مركزية لا في العراق ولا في إسبانيا، تجتاح قواتها مدن ومناطق الحكم الذاتي الكردي أو الكتالوني، فحتى الحكم المحلي، أي المجالس البلدية التي تقتصر على الخدمات العامة، تتمتع بسلطات أكثر من تلك التي باتت إسرائيل تمنحها للسلطة الفلسطينية.
شيء آخر لا بد من قوله بهذه المناسبة، وهو إن اجتماع قيادة فتح قبل أيام، يبدو أنه قد أشعل الضوء الأحمر أمام يوآف غالانت وبنيامين نتنياهو، حين جرى الحديث وإن كان بالتلميح إلى إعادة تفعيل كتائب الأقصى، ذلك أن مقاومة جنين ونابلس التي شاركت مع حزب الله وغزة وإيران في تآكل قوة الردع الإسرائيلية، كذلك الأجهزة الأمنية الفلسطينية ما زالت بشكل علني ورسمي أو صريح، غير منخرطة في تلك المقاومة، بل إن دعوة الرئيس محمود عباس، لاجتماع الأمناء العامين، وتجاوز حالة الانقسام ما بين غزة والضفة، بدورها، أوصلت الرسالة للإسرائيليين، ومفادها، أن الإصرار على السير على طريق المواجهة وحرق الأرض الفلسطينية والتعامل مع الضفة كما جرى التعامل مع غزة، أي اتباع السياسة الأمنية، سياسة باب دوار الاجتياحات، والحرب المتقطعة لكن المتواصلة، لن يفضي إلى استسلام فلسطيني، والى إعادة الاحتلال بالإحلال، أي إحلال المستوطنين مكان الفلسطينيين على الأرض.
كل هذا كان محاولة من حكومة إسرائيلية تتأرجح في مواجهة المشاكل الداخلية والخارجية، فحاولت أن تحل مشاكلها عبر ما تعتقده أضعف الحلقات، وهو الحلقة الفلسطينية، فذهبت إلى جنين، وكان الرد بالمواجهة، والصد، صد الهجوم وإجباره على التوقف بعد يومين فقط، ودون التوغل إلى داخل المخيم والمدينة - كما أسلفنا - لذا فإن نتنياهو وغالانت يحاولان الآن تحقيق ما عجزا عنه بالقوة، أي باستخدام العصا، تحقيقه بالسياسة عبر جزرة التسهيلات، ولكن دون تقديم تنازلات سياسية، تفتح الباب للانسحاب، ستظل إسرائيل تدور في الحلقة المفرغة، وسيظل اليمين المتطرف قابضاً على الليكود، ما دام الليكود ما زال يرهن موقفه بأولوية الاعتبار الشخصي لنتنياهو، وكل ذلك لن يفضي لشيء، والتسهيلات حتى لو قدمت من جانب واحد لن تتعدى كونها مسكناً، لن يعالج أصل وسبب الصداع الذي سيظل يلازم رأس إسرائيل، طالما بقيت تحتل أرض دولة فلسطين.