رغم أن الجيش الاسرائيلي استعد بقوة لامكانية كهذه، أي اندلاع جولة قتال اخرى في قطاع غزة في الاشهر القريبة القادمة، إلا أن هذه تبدو بعيدة عن أن تكون حقيقة واقعة. في الواقع ما زالت تتبلور ببطء نسخة جديدة من الاحداث التي قادت الى الحرب السابقة، عملية “الجرف الصامد” في تموز 2014.
حكومة «حماس» في القطاع، التي تشعر أنها بين فكي كماشة، تزداد في الضغط لدرجة لا تطاق، حيث تقوم بتطوير قدراتها الهجومية، وتقنع نفسها بأن اسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة. القيادة الاسرائيلية، التي لا ترى مكاسب حقيقية من جانبها في حرب جديدة في التوقيت الحالي، تتأرجح ما بين إرسال تهديدات قوية ورسائل تهدئة، على أمل أن تنجح خطواتها هذه ايضا في تهدئة «حماس» وتهدئة الرأي العام الخائف في الداخل. في الوقت الحالي تتبع اسرائيل نهجا سلبيا جدا. فهي تستعد للدفاع في محاولة للعثور على الانفاق الهجومية التي تم حفرها مجددا والتي جزء منها كما يبدو دخل في اراضيها، لكن في هذه المرحلة لا تقوم بمهاجمة الانفاق في منطقة القطاع، وفي المقابل فانها لا تقوم باتخاذ أي خطوة جدية في تقليل الضغط الاقتصادي على غزة.
في هذه الاثناء تقوم الشكوك المتبادلة، التطرف، والتفسيرات المغلوطة لنوايا الخصم، بفعلها، اضافة الى غياب قنوات وساطة مناسبة. وفي الأفق تعمل ايضا مصر، التي ربما لا تريد قوات اسرائيلية في القطاع (عملية كهذه يمكنها تأجيج الجماهير في القاهرة ضد النظام). ولكنها لم تذرف دمعة واحدة عندما تم ضرب «حماس» في الصيف قبل سنة ونصف. إن مصر بيقين لا تستجيب للطلبات التي تصلها من بعض الدول العربية مثل قطر للتخفيف شيئا ما من الحصار على القطاع. في وضع كهذا حيث إن المواجهة لا تخدم كما يبدو أياً من الاطراف فان سيناريو الخطأ في الحساب الذي يمكن أن يؤدي الى اندلاع المعارك، النموذج الذي بوساطته يفسرون فيما بعد في جهاز الاستخبارات في الجيش الاسرائيلي اندلاع الحرب الاخيرة في القطاع، من شأنه أن يتحقق مرة اخرى. إن التاريخ لا يكرر نفسه بالضبط بصورة كاملة. ولكنه احيانا يعيد نفسه جزئيا.
إن عدم الرغبة الاسرائيلية في الدخول في مواجهة عسكرية اخرى في القطاع واضحة الآن للعيان. أيضا التصريحات الشديدة لرئيس الحكومة وحتى التهجمات الغريبة لرئيس المعارضة، لا تنجح في اخفاء ذلك. أولا، ليس لاسرائيل الآن هدف استراتيجي واضح تريد تحقيقه في القطاع. اسقاط حكم «حماس» ليس في نية إسرائيل الآن.
ان الاجماع في الكابنت وفي جهاز الامن يقول إن البديل اسوأ من ذلك. لأنه ستكون هناك فوضى شديدة في القطاع، أو ربما سيطرة منظمة قريبة من «داعش». في هذه الحالة اسرائيل تفضل عدوا تعرفه. إن نقل القطاع الى حكم السلطة الفلسطينية ليس في الحسبان نظرا لأن الرئيس محمود عباس أثبت أنه غير شريك في ذلك، حينما رفض أن يأخذ على نفسه وظيفة أكثر تأثيرا على المعابر الحدودية في نهاية الحرب. على كل حال، في انتظار اسرائيل عدد غير قليل من المشاكل الامنية في السنة القادمة، ومنها تهديد محتمل متصاعد من «حزب الله»، تداعيات الحرب الاهلية في سورية، امكانية اندلاع صراع في الضفة على وراثة قيادة السلطة، والهجوم «الارهابي» الذي استمر اكثر من اربعة اشهر في الضفة والقدس واحيانا في مركز البلاد.
السبب الواضح الوحيد الذي يمكن أن يحرك اسرائيل للهجوم في غزة يتعلق بالحاجة الى وقف تهديد الانفاق. ولكن من اجل ذلك فان الحكومة بحاجة الى ذريعة حرب واضحة. تحتاج الى تبرير يمكنها أن تبلور حوله شرعنة مزدوجة، سواء في اوساط الجمهور في البلاد، الذي دعم باغلبيته الحروب الثلاثة السابقة في القطاع منذ 2008. وكذلك في الساحة الدولية، على الأقل من جانب الولايات المتحدة ودول غرب اوروبا الذين تفهموا جزئيا القرار الاسرائيلي للعمل في الجولات السابقة. في هذه اللحظة طالما أن تهديد الانفاق يبدو نظريا والحقائق الكاملة عنها لا يتم نشرها، يصعب على اسرائيل تبرير عملية هجومية. كما أنها تعلم أن عملية كهذه تتضمن مواجهة عسكرية صعبة مع «حماس»، وفي النهاية لن يكون هناك حل يؤمّن الهدوء لسنوات طويلة.
زار وزير المالية، موشيه كحلون، هذا الاسبوع، مستوطنات غلاف غزة، ووعد بتمويل سريع لبناء الحاجز الجديد حول القطاع الذي من شأنه أن يتضمن للمرة الاولى ايضا حلا تكنولوجيا فعالاً للكشف عن الانفاق الهجومية. حجم المبلغ المطلوب وكذلك مصدره التمويلي لم يتم الافصاح عنهما بصورة رسمية. لكن كما نشر هنا قبل حوالي شهر فان البرنامج يتوقع أن يبلغ ما بين 2.6 – 2.8 مليار شيقل. ويبدو أن تمويله سيصل في معظمه من خارج ميزانية الدفاع. تعهدت الولايات المتحدة بأن تساعد اسرائيل بمبلغ 120 مليون دولار خلال ثلاث سنوات بهدف تطبيق الحل التكنولوجي. هذا قرار يبرهن كما يبدو على أن الحل أصبح قابلا للتطبيق نظراً لأنه من المشكوك فيه أن تقوم الادارة الاميركية بتخصيص هذه الزيادة لاقتراحات لم يتم بلورتها وفحصها بعد.
التغطية الاعلامية الواسعة لتهديد الانفاق وصلت احيانا ايضا الى درجة غير معقولة، عندما اشتكى السكان أمام الكاميرات من أصوات حفر في مستوطنة توجد على بعد أكثر من 4 كم من الجدار (في الوقت الذي يوجد فيه لـ «حماس» اهداف أقرب كثيرا، على بعد مئات الامتار فقط من الحدود). رؤساء المجالس في غلاف غزة في معضلة. فمن جهة هم ملزمون بحماية السكان، ومن جهة اخرى هم يخافون من أن خوفا زائدا سيثني اعضاء جدداً عن الانضمام الى مستوطناتهم.
برنامج واسع صادقت عليه حكومة نتنياهو بعد الحرب تحت قيادة مدير عام مكتب رئيس الحكومة السابق، هرئيل لوكر، خصص لمستوطنات غلاف غزة مليار ونصف المليار من الشواقل الى جانب تسهيلات ضريبية وسكنية كبيرة، لقد نشأت بذلك حوافز كبيرة أدت الى زيادة واضحة في عدد السكان في غلاف غزة. في المجلس الاقليمي اشكول، مثلا، زاد عدد السكان خلال سنة ونصف بنحو ألف شخص ليصل الى 15 ألفاً. وفي كيبوتس كفار عزة يستعدون لاستيعاب 40 عائلة جديدة، ويقدرون الاستثمارات الحكومية منذ الحرب بحوالي 25 مليون شيقل. المنضمون الجدد للمستوطنات يأتون بسبب التسهيلات المالية والمنح السكنية، وجهاز التعليم النوعي والفرصة لحياة جماعية جيدة. لكن سيكون من الصعب الحفاظ على هذا الميزان الايجابي تحت التهديد المتجدد للانفاق، وفي ظل امكانية اندلاع حرب جديدة.
إن الانشغال المتزايد بالانفاق من قبل اسرائيل فاجأ «حماس» بدرجة معينة. حدث هذا بالضبط في ذروة سلسلة انهيارات في الانفاق داخل القطاع. كما يبدو نتيجة للطقس الشتوي، حيث قتل فيها على الاقل تسعة نشطاء من التنظيم. وقد أجبلرت سلسلة الاحداث قادة «حماس» على الخروج بتصريحات بشأن اهمية الانفاق كورقة استراتيجية في الحرب القادمة ضد اسرائيل. في هذا الاسبوع، في اعلان نشرته الذراع العسكرية لـ «حماس»، تم اعطاء القتلى اسما جماعيا جديدا «شهداء الإعداد». في اسرائيل استغلوا هذه الحادثة لاغراض دعائية. منسق الاعمال في «المناطق»، الجنرال يوآف (بولي) مردخاي، اتهم «حماس» بترميم «انفاق الموت» على حساب السكان الفلسطينيين في القطاع. لقد سئل مردخاي في مقابلة مع وكالة الانباء «معا» الفلسطينية، اذا كانت لديه فكرة عن سبب أو كيفية حدوث الانهيارات في الانفاق، فأجاب: الله يعلم.
إن قراراً مستقبلياً من قبل الجناح العسكري لـ «حماس» في أن يقوم ثانية بمهاجمة اسرائيل بوساطة مقاتلين من خلال الانفاق يمكن أن يأتي كنتيجة لتدهور الاوضاع في حدود القطاع، نتيجة اعمال الجيش الاسرائيلي للكشف عن الانفاق، أو سيكون نتيجة تصعيد ممكن اضافي في المواجهة في الضفة إذا تبين أن «حماس» في القطاع مسؤولة عن عملية يقع فيها عدد كبير من الاصابات. واسرائيل سيكون مطلوباً منها الرد في القطاع. لكن يبدو أن المتغير الاهم في معادلة الردع المتبادلة في حدود القطاع تتعلق بالوضع الاقتصادي الذي يزداد سوءاً لسكان غزة.
هذه ليست فقط مسألة معطيات اقتصادية جافة، مثل قدرة «حماس» على دفع رواتب موظفيها (في هذه الاثناء نجحت «حماس» في ذلك)، أو حجم البضائع التي تدخل من اسرائيل (التي تضاعفت ثلاث مرات أو اكثر بعد الحرب). الاهم من ذلك هو مسألة ظروف الحياة الاساسية في القطاع، وهذه تزداد سوءاً. متوسط ساعات تزويد الكهرباء في جزء من احياء غزة هبط الى 4 – 6 ساعات في اليوم، في الوقت الذي فيه أغلبية المياه في القطاع غير صالحة للشرب، وهناك ضرورة لنقل المياه بالصهاريج من اجل توفير الاحتياجات الاساسية. معطيات تم عرضها، مؤخراً، أمام المستوى السياسي في اسرائيل تشير الى أنه حتى سنة 2020 يتوقع حدوث ضرر غير قابل للاصلاح في خزان المياه الجوفية في القطاع.
نسبة البطالة في القطاع تصل اليوم الى 42.7 في المئة. وهذه تمثل انخفاضا بسيطا مقارنة بالوضع بعد الحرب عندما وصلت البطالة الى نسبة 44 في المئة. لكن البطالة تمس بصورة قاسية بالشباب والاكاديميين، حيث إن اغلبية العمال في القطاع الخاص يكسبون اقل كثيرا من أجر الحد الأدنى. على مدى السنوات الاخيرة يتم لمس التأثير القاسي للحصار من الجانب المصري. فطوال سنة 2015 خرج من القطاع فقط 30 ألف شخص من خلال معبر رفح.
دلائل التدهور في الاقتصاد وفي ظروف المعيشة معروفة تماما لدى اجهزة الامن الاسرائيلية، التي معظم قادتها يؤيدون اتخاذ خطوات فورية لاعطاء تسهيلات اقتصادية وللقيام بتحسين البنى التحتية في القطاع. على أمل أن يقلل هذا دوافع «حماس» الى المبادرة الى حرب جديدة. الاقل تأثرا بهذا هما رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، موشيه يعلون، اللذان يشعران أن الوضع في القطاع ليس خطيرا الى هذه الدرجة. ويشيران الى استمرار دخول البضائع في الشاحنات وجباية الضرائب من قبل «حماس». وهما يفضلان الحذر من مصادقات متسرعة على مشاريع كبيرة للبنية التحتية مثل تجديد شبكة الكهرباء. ولهما سببان مركزيان، الاول هو الخوف من أن تسهيلات اضافية سيتم استغلالها من «حماس» لترميم جهازها العسكري، مثلما أن جزءاً من الحديد والاسمنت التي تم ادخاله الى القطاع عن طريق المعابر، ساعد على حفر الانفاق وفي انتاج الصواريخ. الثاني هو الطلب الاسرائيلي من «حماس» تجديد الاتصالات حول اعادة جثتي الجنديين الاسرائيليين في الحرب، هدار غولدن وأورن شاؤول. لكن في الأفق يبدو أن اسرائيل عليها أن تتذكر ايضا ما حدث قبل «الجرف الصامد». في الاسابيع التي سبقت الحرب كان هناك اقتراح لم يتم الأخذ به لزيادة حجم نقل البضائع الى القطاع عبر معبر كرم أبو سالم، الامر الذي تم تنفيذه أخيرا فقط بعد الحرب.
من عناوين الصحف، هذا الاسبوع، انبعثت رائحة شديدة لايام الانتفاضة والمواجهات السابقة. «المخربون» الثلاثة المسلحون الذين نفذوا عملية في القدس، وصلوا اليها من قباطية التي قادت التمرد الفلسطيني في شمال «السامرة» في بداية الانتفاضة الاولى. لقد فرض الجيش الاسرائيلي على قباطية وقبلها على رام الله حصارا. وفي المقابل تم وضع اشارات على منازل عائلات «المخربين» الذين قتلوا تمهيدا لهدمها. في المقاطعة في رام الله استضاف الرئيس الفلسطيني أبناء عائلات الـ 11 «مخربا» من شرقي القدس الذين قتلوا في المواجهات الحالية، في القدس تم عقد جلسة مشاورات أمنية تقرر فيها اتخاذ خطوات لايجاد «فصل» طبيعي بين شمال الضفة وجنوبها، وفي حدود القطاع فتش الجيش الاسرائيلي باجتهاد عن أنفاق. وفي هذه الاثناء يبادل قادة اسرائيل و»حماس» الاتهامات فيما بينهم.
1987، 2001، 2014، يبدو أن اسرائيل والفلسطينيين مضطرون الآن للسير يداً بيد إلى الخلف في نفق الزمن.
دوافع أمريكا وإسرائيل من إعلان الحرب على قطاع غزة
11 أكتوبر 2023