لم يستحق اجتماع الكابينت الإسرائيلي الذي انعقد يوم الأحد الماضي، رداً رسمياً فلسطينياً، وفقط ردت الحكومة بالقول بأن أموال السلطة هي حق لها، وعلى إسرائيل أن تدفعها دون أي شروط، مع ذلك فإن أبلغ رد ليس على اجتماع الكابينت، الذي كشف في حقيقة الأمر عن الحاجة الأمنية الإسرائيلية للسلطة، والتي دونها لا يمكنها أن تحلم بإدارة احتلالها بهدوء، ولكن أبلغ رد على اجتياح جنين وإقدام إسرائيل على التنكيل بالمدينة ومخيمها الصغير نسبياً، إنما جاء عبر زيارة الرئيس محمود عباس للمدينة ومخيمها، بعد أسبوع فقط من الاجتياح الإسرائيلي لها.
إن زيارة الرئيس عباس لجنين ومخيمها، في الوقت الذي تشد فيه على يد صمود المدينة الباسلة، فإنها تضمد جرحها إلى حد بعيد، كما أنها تقول بأن جنين ليست وحدها، ولا يمكن للاحتلال أن ينفرد بها ولا بأي مدينة فلسطينية تقاوم احتلاله البغيض، وهي _أي زيارة الرئيس_ تقول بكل وضوح وبساطة، بأن فلسطين كلها تقاوم الاحتلال، وليس هناك من أية فواصل بين السلطة، الفصائل والشعب، وكما جاء في كلمة الرئيس من تأكيد على الوحدة الوطنية الميدانية، فإن الكل الفلسطيني يقاوم الاحتلال، بأساليب وأدوات تتكامل ولا تتعارض.
وحيث إن الزيارة تضمنت بالطبع تقديم إكليل الغار لشهداء معركة «بأس جنين»، فإن ذلك أبلغ رد على المحاولة الإسرائيلية الدنيئة بمجرد التفكير بالإيقاع بين السلطة والشعب، لأن ذلك يعني تبني السلطة لشهداء جنين، وأسراها الذين اعتقلتهم إسرائيل، بما في ذلك إعالة عائلاتهم، والأهم من كل هذا بالطبع، إفشال الهدف السياسي من العملية العسكرية الإسرائيلية، والتي سعت إسرائيل للخروج بها، بعد أن تأكدت من عدم تحقيق أهدافها الأمنية، ونقصد تدمير المخيم بالذات، وتهجير سكانه، لاعتقاد إسرائيل بأن المخيم بالذات حاضنة متقدمة ونواة صلبة لمقاومة الاحتلال.
أي أن حرص الرئيس على متابعة إعادة إعمار المخيم والمدينة بشكل سريع للغاية، وبشكل شخصي، يؤكد بأن السلطة بالفعل وليس بالقول فقط، تقف في وجه الاحتلال الغاشم، وتقاوم جبروته من موقعها المسؤول، ولهذا فقد استقبل مخيم ومدينة جنين الرئيس بكل حفاوة وترحاب رغم آلامهما الناجمة عن حداثة الجرح.
لا بد من الانتباه أيضاً، إلى أن زيارة الرئيس عباس لمخيم ومدينة جنين أعقبت زيارة الوفد القيادي الفتحاوي، من جهة، ومن جهة ثانية عقب الظهور اللافت والمهم جداً لكتائب الأقصى من جنين وإعلانها عن إطلاق صاروخين باتجاه المستعمرات الإسرائيلية القريبة، بما يؤكد تماماً ودون أي شك على وحدة ميدان المقاومة فصائلياً وسياسياً، رسمياً وشعبياً، كما تأتي زيارة الرئيس الميدانية لجنين قبل أيام من اجتماع الأمناء العامين في القاهرة، والذي يعني الكثير بما يحمله من توقعات وآمال بأن يضع حداً لحالة الانقسام بين جناحي الوطن، خاصة وأن الأمناء العامين هم أعلى مستوى في الفصائل، حيث يمكنهم أن يتخذوا القرار اللازم لإنهاء الانقسام، وهم في قاعة الاجتماعات، أي دون الحاجة لمشورة مراجعهم التنظيمية، أو العودة لفصائلهم، وتأجيل البت في أمر إعادة الوحدة الوطنية لاجتماع آخر.
جنين إذاً توحد الكل الفلسطيني على طريق المقاومة متعددة الأشكال والأدوات والوسائل، ولعل هذا هو الدرس الكبير، وقد جرب الفلسطينيون هذا في غزة، منذ أكثر من عامين، حيث أن إسرائيل في كل اعتداءاتها على غزة، في الفترة الأخيرة تستهدف قادة وكوادر ومواقع الجهاد الإسلامي وسرايا القدس الخاصة به، أي دون حماس وقسامها، ورغم ذلك فإن التوافق بين حماس والجهاد الإسلامي السياسي خاصة، لم يتأثر، بل إن الجهاد متفهم لما تبديه حماس من ضبط نفس، ومن مسؤولية للحفاظ على قطاع غزة من التدمير الشامل، وإن كان من ضمن ذلك الحفاظ على قادتها وكوادرها العسكريين خاصة، والجهاد وحماس في غزة يتبادلان الأدوار، على طريقة حزب الله والرئيس اللبناني، خاصة في عهد ميشال عون، ويبدو أن الأمر نفسه سيقع في الضفة الغربية، وإن كان ليس بصورة متطابقة، ذلك أن نظام الحكم في الضفة الغربية الفلسطيني ليس سلطة فقط، بل هناك السلطة الرسمية وهناك «فتح» وهناك كتائب الأقصى، والأهم أن الضفة الغربية والقدس كلها تقع تحت احتلال مباشر، لم يعد يستثني حتى مناطق أ المصنفة كمدن، مهمة الأمن فيها أو مسؤوليتها الأمنية تقع على عاتق السلطة وليس إسرائيل.
فأن ينخرطَ الرئيس شخصياً في الهم الشعبي، بهذا الشكل الميداني، يعني الكثير، ويقرب في حقيقة الأمر كثيراً من النجاح في المهمة القادمة في القاهرة، ومن يدري، فقد ينتهي الأمر بذهاب الأمناء العامين يتقدمهم الرئيس عباس إلى غزة، ليتم الإعلان ميدانياً ودون أية مواربة عن إنهاء نهائي وتام للانقسام، المهم أن لا تظل الفصائل تصر على الشكليات، بعد أن انتقلت كثيراً السلطة ومعها «فتح» من موقع المراهنة على التفاوض كمدخل يفضي للحل السياسي، بالإصرار على أن المقاومة المسلحة هي الشكل الوحيد لإنهاء الاحتلال، ولا بد للفصائل وخاصة «الجهاد» و»حماس» من الإقرار بتعدد أدوات وأساليب المقاومة، كذلك أن تقتنع بتكامل الأدوار، وبأن «فتح» هي شقيقة «الجهاد» كما هي «حماس»، وإن تشبث الطرفين خلال أكثر من عقد ونصف، كل ببرنامجه، أي السلطة وفتح على خيار التفاوض أولا، ثم المقاومة الشعبية السلمية ثانياً، لم يفض لإنهاء الاحتلال، ولا حتى للتقدم على هذا الطريق، كما أن مراهنات حماس على كسر الحصار عبر الحلفاء الإسلاميين فقط، لم يحقق شيئا، كما أن طريق المقاومة، حتى المسلحة، يحتاج إلى وحدة ميدانية، والتفرد من قبل إسرائيل بأي فصيل، وليس فقط بكل مدينة أو مخيم، خاصة في الضفة والقدس، لو تم أو سُمح به من قبل الفلسطينيين، فإن ذلك يعني اندحار المقاومة لا قدر الله.
الجهاد أولاً وحماس ثانياً، وحتى تحقق المقاومة تقدماً، بل ومن أجل أن تصمد، وتنجح في الإبقاء على تآكل الرد العسكري الإسرائيلي، هما بحاجة إلى الوحدة الميدانية والسياسية مع فتح والسلطة. ومع تطرف الحكومة الإسرائيلية الحالية، ومع غرقها في مشاكلها الداخلية، بل ومع مواجهتها لتعدد الجبهات المعادية لها، هناك فرصة حقيقية، لأن تتحقق الوحدة الداخلية، دون أن يأخذ أحد، نعني لا الأميركيين ولا الأوروبيين على السلطة مأخذاً، وحتى تتحقق وحدة الميدان في القدس والضفة الغربية، وحتى يمكن تخفيف وفكفكة الحصار عن غزة، لا بد أن توافق حماس على فرد عباءة السلطة رسمياً على قطاع غزة، بمعابره ومداخله، خاصة وأن هناك أفقاً اقتصادياً وطنياً، يتمثل في إمكانية استخراج غاز غزة، ليكفي الجميع، نقصد جميع الفلسطينيين في غزة والقدس والضفة، سلطة وفصائل وشعباً، موظفي رام الله وموظفي غزة، دون حاجة للمانحين أولا بمن فيهم قطر، ويجرد إسرائيل نفسها من ورقة الضغط التي تواصل استخدامها ضد السلطة، نقصد بالطبع أموال المقاصة، وحيث أن اعتماد فلسطين على ذاتها اقتصادياً، سيفتح لها أبواب الاستقلال الوطني، أوله فتح أبواب غزة المغلقة على الخارج، وثانيها، إعمار كل ما يدمره الاحتلال وحتى ما يقوم بهدمه في الضفة من منازل، كذلك توفير المال اللازم لمواجهة حرب التهويد في القدس، وحتى الحرب على زراعة المناطق «ج» في عموم الضفة الفلسطينية.
إن السنين خففت كثيراً من الحدة ما بين برامج الفصائل الفلسطينية، خاصة ما بين برنامجي السلطة والمقاومة المسلحة، وميدانياً اقتربت الأطراف من بعضها، وتوحدت القلوب والسواعد في الدفاع عن الأقصى والقدس، كذلك توحدت القلوب والسواعد في الدفاع عن جنين ومخيمها، وعن نابلس ومحيطها، وعن كل المدن والقرى والمخيمات، وحتى كذلك عن غزة، وفي حقيقة الأمر، لم يعد هناك من يمكنه أن يفهم سر البقاء بعد كل هذه السنين، وبعد كل هذه الأحداث والوقائع على هذا الانقسام البغيض بين جناحي الوطن، غزة والضفة، أو بين سلطتي «حماس» و«فتح».