تمتلىء شوارع إسرائيل منذ أسبوع بأكثر من 150 ألف متظاهر، تقريباً بشكل يومي، في مشهد يذكّر بموجات الربيع العربي، وثورة 17 تشرين 2019 في لبنان، خصوصاً أنّ التظاهرات تعمّ إسرائيل كلّها تقريباً. ويداوم المتظاهرون على قطع طرق رئيسية، ونصَب عدد كبير منهم خيماً للإقامة الطويلة في الشوارع، فردّت الشرطة بمواجهات عنيفة في "يوم الشلل الوطني". ووصل الشلل إلى إغلاق المحتجّين مدخل مطار بن غوريون.
هكذا يتناوب مئات الآلاف على التظاهر احتجاجاً على ما قامت به حكومة بنيامين نتانياهو، التي تقتل الفلسطينيين في جنين وغيرها بيد، وتهزّ النظام القضائي الإسرائيلي باليد الأخرى، لحماية رئيسها من تهم الفساد التي يُتوقّع أن تودي به إلى السجن.
انفجر الشارع بعدما أقرّ الكنيست تعديلات قانون القضاء، بأكثرية 64 نائباً واعتراض 56 على النصّ الذي يلغي إمكانية أن يفصل القضاء في "مدى معقولية" قرارات الحكومة. وهو يحدّ من سلطات "المحكمة العليا" وقدرتها على إبطال قرارات تتّخذها الحكومة والوزراء والمسؤولون المنتخبون.
يخشى نتانياهو من السجن الذي أقام فيه عدد من الرؤساء السابقين بعد خروجهم من السلطة، ويراوده كابوس أن ينهي حياته السياسية فيه مذلولاً، بدل "المجد" الذي يحلم به.
هذه الحرب التي يقودها نتانياهو على أكثر من جبهة، في الضفّة وغزّة، كما في الداخل، يُضاف إليها التوتّر على الحدود مع لبنان الناتج عن ضمّ إسرائيل الجزء اللبناني من قرية الغجر، وتلويح مسؤولين في إدارة نتانياهو بالحرب اعتراضاً على نصب الحزب خيمتين في مزارع شبعا داخل الخطّ الأزرق ضمن ما يعتبره لبنان أراضي لبنانية محتلّة، وبالطبع الخلاف العلنيّ مع إدارة جو بايدن الأميركية.
يخشى نتانياهو من السجن الذي أقام فيه عدد من الرؤساء السابقين بعد خروجهم من السلطة، ويراوده كابوس أن ينهي حياته السياسية فيه مذلولاً، بدل "المجد" الذي يحلم به
أنشب نتانياهو المُحاصَر في الداخل أظفاره في كلّ مكان، سواء من خلال التصدّي القاسي للمتظاهرين أو قتل الفلسطينيين أو التلويح بحرب مع لبنان.
"إرهاب" إسرائيليّ
في الداخل تعمل الحكومة الإسرائيلية على شيطنة المتظاهرين ضدّ خطّة الانقلاب القضائي. إذ وصف وزير التربية الإسرائيلي، يوآف كيش، التظاهرات بأنّها "إرهابية". وبعدما احتجّ الصحافي الذي أجرى المقابلة على الوصف، أجابه كيش أنّ "هذه ليست عمليات مسلّحة إرهابية، لكنّها تعرقل مجرى حياة ملايين الأشخاص، ويُحظر القيام بذلك".
وفي تحدٍّ واضح لنتانياهو وحكومة "الثالوث الجديد" (نتانياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش) أعلنت المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية، غالي بهاراف ميارا، أنّ بإمكان حركات الاحتجاج تنظيم تظاهرات في مطار بن غوريون الدولي في اللدّ، بعدما طلبت الحكومة منع التظاهر في المطار بشكل مطلق، فدعا وزراء إلى إقالتها على خلفيّة تعاطفها مع المتظاهرين.
أميركا مع المتظاهرين
كرّرت نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، قبل أيام دعوة إسرائيل إلى ضمان استقلال نظامها القضائي، وقالت في حفل أقامته السفارة الإسرائيلية في واشنطن إنّ "أميركا ستواصل الدفاع عن القيم التي تشكّل حجر الأساس في العلاقات مع إسرائيل، ومن بينها مواصلة دعم ديمقراطيّتَيْنا اللتين تستندان إلى مؤسّسات قويّة وضوابط وتوازنات، وأضيف إلى ذلك: وقضاء مستقلّ". فردّ وزير الخارجية الإسرائيلي عليها: "ما الذي يزعجكم بالضبط؟ لا أحد يخبرني".
على خطاها أعلن سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، توم نايدس، أنّ خطة إضعاف القضاء "تثير تساؤلات بشأن مدى ديمقراطية إسرائيل وقوّة علاقاتها مع الولايات المتحدة.. وهو نزول عن السكّة".
يأتي هذا بعد فترة طويلة من نشوء أزمة بين نتانياهو وبايدن ظهرت بشكل واضح على خلفيّة رفع الرئيس الإسرائيلي من حدّة الاستيطان في الضفّة الغربية. إذ أعلن بايدن شخصياً الأحد الفائت أنّ "حلّ الدولتين هو الطريق الصحيح لوضع حدّ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي". واعتبر أنّ "حكومة نتانياهو هي الأكثر تطرّفاً في إسرائيل منذ غولدا مائير". فردّ عليه وزير الأمن بن غفير بدعوته إلى أن يدرك أنّ "إسرائيل ليست جزءاً من الولايات المتحدة"، وأضاف: "إذا كان يعتقد أنّ توزيع الأسلحة على المستوطنين تطرّف، فأنا أدعوه إلى زيارة القدس والخليل ليرى أنّ التطرّف الذي يتحدّث عنه دافعه حبّ إسرائيل".
إلى ذلك اتّهم وزير ما يسمّى بـ"الشتات الإسرائيلي"، عميخاي شيكلي، إدارة بايدن بأنّها "تلعب دوراً مهمّاً في تأجيج الاحتجاجات، ولها صلة وثيقة بزعيم المعارضة يائير لابيد، وهناك علاقة عميقة بينهما".
في الداخل تعمل الحكومة الإسرائيلية على شيطنة المتظاهرين ضدّ خطّة الانقلاب القضائي
إسرائيل "عالمثالثيّة"
أمّا الكاتب الإسرائيلي دورون ويبر فاعتبر أنّ محاولة تصفية القضاء التي يقودها نتانياهو وبن غفير وسموتريتش هي "امتداد طبيعي ومنطقي لقتل رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين ومعه اتفاق أوسلو، إذ كان نتانياهو أشدّ من حرّضوا على رابين مستغلّاً غضب المتديّنين المتطرّفين الساخطين على ما اعتبروه تخلّياً عن أرض يهودية".
وصل صدى ناقوس الخطر إلى تخوم المؤسسة العسكرية في إسرائيل. فقد أعلن قرابة 200 طيّار حربي وعناصر في الاحتياط في سلاح الجوّ الإسرائيلي خطوات احتجاجية سينفّذونها ضدّ خطّة "إضعاف جهاز القضاء". بينما ارتفع إلى 300 عدد ضبّاط وجنود الاحتياط في منظومة "السايبر" الهجومية الإسرائيلية الذين يرفضون تأدية الخدمة العسكرية على خلفيّة دفع تشريعات خطّة "الإصلاح القضائي"، ووقّعوا عريضة جاء فيها: "لن نكون شركاء في حكومة مجرمة وجهتها تحطيم دولة إسرائيل. وتمرير قانون إلغاء ذريعة عدم المعقوليّة هو الحجر الأوّل في جعل دولة إسرائيل فاسدة، ظلامية وضعيفة. والتنكيل العلني بالمستشارة القضائية للحكومة يؤكّد نوايا الحكومة: تحطيم سلطة القانون ووقف الاحتجاجات الشعبية ضدّ الانقلاب القضائي بواسطة عنف غير قانوني".
في الخلاصة، تتحوّل إسرائيل يوماً بعد يوم إلى "دولة عالمثالثية"، ويتقدّم الجانب الديكتاتوري على الجانب الديمقراطي، في الداخل. والخلاف مع محيطها العربي، لبنان وسوريا والأردن، وتعثّر اتفاقات أبراهام، والاعتداءات اليومية على الفلسطينيين، والانهيار السياسي الداخلي، والخلاف مع أميركا، تجعل حكومة نتانياهو "حكومة مارقة" في المنطقة والعالم.