مخطئ من يعتقد أن الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا هي حرب بين دولتين، بل هناك أبعاد إقليمية ودولية مرتبطة بهذا الصراع، وحلف شمال الأطلسي ليس بمعزل عن هذه الحرب سوى أنه يديرها عن بعد ويسعى أن تكون حرباً غير مباشرة مع موسكو.
حلف «الناتو» الذي اجتمع أعضاؤه الأسبوع الماضي في ليتوانيا تحت تشديدات أمنية مكثفة، واصل نفس النهج السياسي والعسكري الذي سلكه منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا أواخر شباط 2022، من حيث استكمال تقديم كل أشكال الدعم إلى كييف، والسعي للتمدد الجيوسياسي في القارة الأوروبية.
جديد اجتماع «الناتو» جاء بموافقة تركيا أخيراً وبعد مفاوضات أميركية وأوروبية مع أنقرة، على قبول السويد في حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي أثار حفيظة روسيا التي ترى في التمدد الجيوسياسي لحلف «الناتو» محاولة لتطويق النفوذ الروسي في العالم وأوروبا تحديداً.
مشكلة روسيا أن بحر البلطيق الذي يستعجل «الناتو» السيطرة عليه، يشكل أحد أهم المنافذ المائية لقواتها البحرية إلى المحيط الأطلسي ومن ثم البحر المتوسط وباقي البحار، وعلى الرغم من قصر طول شريطها الساحلي المطل على بحر البلطيق بحوالى 140 كيلومتراً، إلا أنه شريان حياة رئيس بالنسبة للصادرات وحركة التجارة الدولية الروسية.
ترتيبات انضمام السويد، وقبلها التحاق فنلندا بركب حلف «الناتو»، جعلا من بحر البلطيق بحراً تابعاً لحلف شمال الأطلسي، هذا عدا إطلاق المناورات البحرية العسكرية لدول الحلف لعسكرة بحر البلطيق وزيادة أعداد السفن المرابطة فيه لحوالى 30 سفينة بعد حادثة إعطاب أنابيب غاز نورد ستريم 2.
بالنسبة للأمن الروسي هناك أهمية بالغة جداً لتحقيق مكاسب عسكرية في أوكرانيا، لأن موسكو تعتقد أن الانتصار في هذه الحرب سيعني بالضرورة تفوق القوة العسكرية الروسية على دول «الناتو»، وإعادة صياغة الخارطة الجيوسياسية لأوروبا بما يتماشى مع المصالح الإستراتيجية والأمنية بالنسبة لروسيا.
قمة حلف شمال الأطلسي عكست رغبة جامحة لدى دوله في إضعاف النفوذ الروسي بهدوء ودون صدام مباشر، بدليل أن أوكرانيا التي طالبت منذ سنوات بإلحاقها في قاطرة «الناتو»، لم تفلح في الحصول على العضوية، ولم تتمكن من الحصول على ضمانات أو جدول زمني مرتبط بموعد انضمامها.
الرئيس الأميركي جو بايدن حسم موضوع عضوية أوكرانيا لحلف «الناتو» إلى مآلات الحرب، وهذا يشي بأن واشنطن والاتحاد الأوروبي تأخذ التهديدات الروسية على محمل الجد، خصوصاً احتمالات توسع الحرب وتحويلها إلى نووية.
في الوقت الحالي كل ما يستطيع «الناتو» فعله وكذلك مجموعة السبع، هو مواصلة تقديم حزم من المساعدات العسكرية لمنع تقهقر كييف، ويشمل ذلك بطبيعة الحال الموافقة على مطالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بشأن الحصول على معدات عسكرية حديثة.
واشنطن التي تحاول الابتعاد قليلاً عن إدارة الحرب بشكل مباشر تجنباً للاصطدام مع موسكو، تعمل في الخفاء وتُكلّف حلفاءها الأوروبيين إرسال طائرات إف 16 وصواريخ بعيدة المدى لكييف، وفي المقابل تعطي الأوامر بشأن تدريب المقاتلين الأوكران على استخدام الأسلحة المتطورة والطائرات الحربية.
حزم المساعدات العسكرية الأميركية والأوروبية لأوكرانيا ليست لعام أو عامين، وإنما تمتد لعشرة أعوام، وهذا ربما يعكس بشكل أو بآخر أن الصراع مع روسيا طويل المدى، ومع ذلك ثمة اعتراضات من بعض دول «الناتو» على مطالب زيلينسكي الكثيرة بشأن أنواع الأسلحة وسرعة الحصول عليها.
اللافت للنظر على هامش القمة خروج تصريحات صادرة عن وزير الدفاع البريطاني بن والاس، الذي استغرب إلحاح كييف المتزايد على طلب الأسلحة، وعدم امتنانها للجهد الذي تبذله المملكة المتحدة بهذا الشأن بالقول: إن بلاده ليست متجر «أمازون» أسلحة لأوكرانيا.
هذا الرد يشبه إلى حد كبير امتعاض بعض دول حلف «الناتو» في السابق من مطالبات أوكرانيا المتكررة للأسلحة، وربما يؤدي ذلك مع الوقت إلى تفشي خلاف داخل الحلف بشأن قلة إمكانيات بعض الدول من الوفاء بالحصص العسكرية والمادية المطلوبة منها.
على كل حال، لم تحمل قمة «الناتو» أي تغيير في عقيدتها العسكرية تجاه روسيا، سوى أن عامل الوقت هو الفيصل في هذه الحرب، هذا الذي تريد أوروبا أن ترى تباشيره سريعاً، بينما تجد واشنطن في إطالة الحرب فرصة لاستبعاد روسيا عن خارطة المشهد العالمي، وزيادة تبعية أوروبا للنفوذ الأميركي.
لكن المتغير في السياسة الأميركية يتعلق باستعمال «الناتو» والاتحاد الأوروبي لإضعاف النفوذَين الروسي والصيني في العالم، ومثلما جرّت واشنطن أوروبا لمعاداة موسكو، فهي تفعل ذلك الآن مع بكين وتحاول محاربتها بالذراع الأوروبية.